النبوة العامة
مقدمة
النبوة سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده، لازاحة علّتهم في أمر معادهم ومعاشهم.
والنبي هو الإنسان المُخْبِر عن الله تعالى بإحدى الطرق المعروفة.
والبحث في النبوة يقع على صورتين:
الأولى: البحث عن مطلق النبوة، من دون تخصيص بنبيٍّ دون نبي.
الثانية: البحث عن نبوة نبي خاص، كنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والأبحاث الّتي طرحها المتكلمون في النبوة العامة تتمحور في أربعة أُمور هي:
1- البحث عن حسن بعث رجال الغيب والوحي لهداية الناس وإرشادهم إلى الغاية المتوخاة من خلقهم، أو لزومه.
2- إذا ثبت حسن البعثة، فما هي الطرق الّتي يُعرْف بها النبي الصادق من المتنبيء الكاذب؟ وهل هي منحصرة بالإِعجاز، أو هناك طرق أخرى؟
3- إذا كان النبي هو الإنسان المتصل بالله سبحانه، فما هو ذاك الطريق الّذي يتصل به عبْرَه، ويتلقى من خلاله تعاليم الخالق سبحانه؟
4- ما هي الصفات المميزة للنبي عن غيره؟
ويرجع البحث في الأول إلى تحليل أدلة مثبتي لزوم البعثة ومنكريه، كما يرجع البحث في الثاني إلى الطرق الّتي تثبت بها نبوة الأنبياء. ويرجع البحث في الثالث إلى الوسيلة الّتي يتلقى بها النبي تعاليمه من الغيب، أعني الوحي والإلهام. ويرجع البحث في الرابع إلى التعرف على صفات الأنبياء، كعصمتهم من الخطأ والزلل وتنزههم عن الصفات المنفِّرة.
وبإشباع البحث في هذه المجالات الأربعة، يكتمل البحث في النبوة العامة، ويقع الكلام بعده في النبوة الخاصة، بإذنه تعالى.
لزوم بعثة الأنبياء
إتفق أهل الملل قاطبة على لزوم بعثة الأنبياء إلى الناس، بمعنى أن حكمة الخالق البالغة تقتضي إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم إلى سبل السعادة.
وخالفهم في ذلك البراهمة، فقالوا بأن المجتمع الانساني بفطرته وعقليته، يصل إلى تلك الغاية، من دون حاجة إلى معلم غيبي.
والتعرف على الحق في ذلك يتوقف على تحليل أدلة الطائفتين، ونقدم أولاً أدلة المثبتين، مختارين القليل من الكثير منها1، ثم نتبعها بأدلة النافين فنذكرها ونحلّلها.
حاجة المجتمع إلى القانون الكامل
وبيان هذا الدليل يستدعي رسم أمور
الأمر الأول: نزعة الإنسان إلى الحياة المدنية
لا يشك احد من الفلاسفة والباحثين في الحياة الإنسانية، في أن للإنسان ميلاً إلى الإجتماع والتمدن، فهو يفر من حياة الإنفراد في الغابات والصحاري وكهوف الجبال، ويتجه إلى التشكّل مع أبناء نوعه في اطار المجتمعات الكبرى، وكلّما تكاملت الحضارة الإنسانية، إنحسرت تلك الحياة الفردية وازدادت التشكّلات المدنية والإجتماعية.
وهناك نظريتان في تفسير هذه النزعة الانسانية
الاولى: أن الإنسان "مدني بالطبع" فهو بدافع فطري محض يفر من الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية.
والثانية: أن الإنسان "مستخدِم بالطبع"، يميل إلى استخدام كلِّ شيء في الطبيعة لصالح غرائزه ومتطلِّبات فطرته، ولا يمكنه تحقيق هذا الدافع إلى الإستخدام إلا بالتشكل في إطار الحياة الإجتماعية. ولولا وفاء التعاون مع أبناء نوعه المستلزم للحياة الإجتماعية بإشباع ميله للاستخدام، لظلّ حليف الغابات والكهوف. وعلى كل تقدير، لا مفر للإنسان عن الحياة الإجتماعية سواء لكونه مدنياً بالطبع أو مستخدماً بالطبع.
الأمر الثاني: الحياة الإِجتماعية رهن القانون
إن حاجة المجتمع إلى القانون ممّا لا يُرتاب فيه، وذلك لأن الإنسان مجبول على حب الذات، وهذا يجرّه إلى تخصيص كل شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقاً. ومن المعلوم أن الحياة الإجتماعية بهذا الوصف تنتهي إلى التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع، وتؤدي بالتالي إلى عقم الحياة وتلاشي أركان المجتمع. فلأجل ذلك لا يقوم للحياة الإجتماعية أساس إلا بوضع قانون دقيق ومحكم ومتكامل، يقوم بتحديد وظائف كلِّ فرد وحقوقه، ويشرِّع الحدود والقيود الّتي يجب تحرك الجميع من خلالها.
الأمر الثالث: شرائط المقَنِّن
إن وضع قانون ولو للقضايا والمشاكل الجزئية، يعدّ من أصعب الأمور في مقام التحقيق، ولا يقوم به إلا أماثل رجال المجتمع الذين تجتمع فيهم مؤهلات عالية من العلم والخبرة. ولكي تقف على حقيقة ما ذكرنا نضرب مثالا لبعض القضايا:
إنّ مشكلة أزمة السير من أعسر المشكلات الّتي تعاني منها المجتمعات المدنية الحديثة، ويٌعَدّ حلُّها من الامنيات الكبرى لسكانها والقائمين عليها. فلو قامت مدينة تعاني من هذه الأزمة بتشكيل لجنة مهمتها وضع قانون وضوابط كفيلة بحلّها، فلا بد أن تتوفر لدى أعضاء هذه اللجنة، المعرفة والخبرة اللازمين لتحقيق هذه الغاية، فلا بد أن تكون مطلعة على عدد شوارع المدينة ومقدار سعتها، وكيفية ارتباطها، وعدد الوسائط النقلية الّتي تجوبها، كذالك المركز الاقتصادية والحيوية في المدينة،، ومراكز الكثافة السكانية، ومراكز المواقف العامة للسيارات، ومقدار سعتها وضيقها، وكذلك الوعي الثقافي لدى الناس الداعي إلى رعاية النظام والتخطيطات، والتعرف ايضاً على خبرات السابقين والمخططات الّتي طّبقت في المدن الاخرى ...... إلى غير ذلك من الشروط اللازمة لوضع قانون وخطة وافية بحل الإزمة. والجهل بواحد منها فضلا عن جميعها، موجب للفشل وعدم نجاح القانون.
فإذا كان هذا الموضوع الجزئي بحاجة إلى علم وخبروية بهذا الحد حتى يُجْعَلَ له قانون كافل لحل أزمته، فكيف يجعل القانون للمجتمعات البشرية المنتشرة في أصقاع الأرض، والّتي تتباين من حيث الظروف الجغرافية والعادات والتقاليد، يكون متناوِلاً لجميع جوانب الحياة؟!
لا ريب أن جعل قانون كهذا يحتاج إلى توفّر شروط وشروط، تخرج قطعاً عن طاقة الإنسان مهما ترقّى في درجات العلم. واليك ثلاثة من أُمهات تلك الشروط.
الشرط الأول: أن يكون المقنّن عارفاً بالإنسان
إنّ أول وأهم خطوة في وضع القانون، معرفة المقنِّن بالمورد الّذي يضع له القانون، كما أشرنا إليه في المثال المتقدم. وعلى ضوء هذا لا بد أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان: جسمِهِ وروحِهِ، غرائزه وفطرياته، وما يصلح لهذه الأمور أو يضُر بها، وكلما تكاملت هذه المعرفة بالانسان، كلما كان القانون ناجحاً وناجعاً في علاج مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخاة من خلقه ووجوده في هذا الكون.
ومَثَلُ المقنِّن في هذا المقام، مَثَلُ الطبيب، كلما كانت معلوماتهُ حول المريض جسمِهِ وروحِهِ وظروفِهِ المحيطة به، كاملةً، كما كانت الوصفة مفيدةً وناجعة في قَلْعَ المرض.
وهناك وجهة أُخرى لاقتضاء طبيعة التقنين، المعرفة الكاملة بالانسان، وهي أن الإنسان خُلِقَ مع غرائز جامحة لا تعرف لإرضائها قاعدة ولا حدّاً. ومن المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز بالكلية ينتهي إلى الفناء، كما أن اطلاق عنانها يؤدي نفس النتيجة. فالطريق الأوسط، كبح جماحها على حد يتم لصالح الإنسان الفرد أولاً، وصالح المجتمع ككلّ ثانيا.
ومن هذا يتبين أن من يريد أن يقنِّن لصالح المجتمع، يجب أن يكون عارفاً بالإِنسان عرفاناً كاملاً، واقفا على زوايا روحه وأعماق ضميره وخصوصيات بدنه وطاقاته، وما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد.
الشرط الثاني: أن لا يكون المقنِّن منتفعاً بالقانون
وهذا الشرط بديهي، فإن المقنن إذا كان منتفعاً من القانون الّذي يضعه، سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة، فإنّ هذا القانون سيتم لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع، ومثل هذا القانون ناكب عن الحق، متردّ في مهاوي التفرقة والتمييز، ونتيجته الحتمية الظلم والإجحاف.
فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا كان واضعُهُ مجرّداً عن حب الذات وهوى الإنتفاع الشخصي.
الشرط الثالث: إصلاح الباطن
إن للعقيدة دورها وأثرها في اختيار الفعل وانتخابه وكلُّ ما يصدر من الإنسان من فعل أو ترك فهو وليد عقيدته وتفكيره فالمؤمن بالله وشرائعه يسعى للإتيان بأعمال يرضي بها ربَّه، كما أنّ الملحد والكافر به وبشرائعه يسعى إلى الأعمال الّتي فيها رضى غرائزه ومتطلبات نفسه.
والقانون مهما بلغ في درجات التكامل، لا يكون ناجحاً ومفيداً إلا إذا كان في جوهره وصميم ذاته، ضمانات لأجرائه وتجسيده في الحياة.
وبضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما يتضح أن الضمان الكامل لإجراء القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر، ولا يكون نظره محصوراً بوضع الضوابط الماديَّة الجافّة.
فالقانون الكامل يبتني على إيجاد عقيدة وإيمان بالغيب، وبقوة قاهرة كبرى، تراقب الإنسان في ليله ونهاره وفي حياته الشخصية وعلاقاته الإجتماعية، بالإضافة إلى ايجاد التنظيمات المادية لمراقبة أعمال الفرد الظاهرية.
واجتماع هذين الأمرين يصنع من الفرد إنساناً إجتماعياً يعيش في ظل القانون مراعياً له ولا ينقضه إلا شاذاً ونادراً.
ولو كان المقِّنن ناظراً إلى الجهات الظاهرية فقط ومكتفياً في ضمانات الإِجراء بالتنظيمات الرائجة، لكان خاسراً في تقنينه، ولن يَرى له تجسّداً إلا في وضح النهار وأمام أعين القوى البشرية المُجْرِية.
هذه أبرز الجهات الوافية بكمال القانون فهلمّ نرى أين تتحقق هذه الشرائط، وعند مَنْ؟.
أما الشرط الأول، فإنا لن نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان من خالقه، فإن صانع المصنوع أعرف به من غيره. يقول سبحانه: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ﴾(المُلْك:14).
واما الشرط الثاني، فلن نجد أيضا موجوداً مجرداً عن أي فقر وحاجة وانتفاع سواه سبحانه، ووجه ذلك أن الإنسان مجبول على حب الذات، فهو مهما جردّ نفسه من تبعات غرائزه، لن يستطيع التخلص من هذه النزعة، وإلا لزم أن ينسى نفسه، ويَخْرُجَ بالتالي من عداد البشر.
وأما الشرط الثالث، أي تشريع القانون على صرح الإيمان والإعتقاد بصحة التشريع، فلن نجده أيضاً في غيره سبحانه، لأنه يدعو إلى ربوبية نفسه وعبوديّة غيره، ويبين للناس أن صلاحهم في إطاعته وشقاءهم في مخالفته وبهذا يسري قانونُه وتشريعُه في الحياة والمجتمعات البشرية سريان الماء في الشجر والنبات، ويكون مضمون الإجراء والتطبيق.
أضف إلى ما ذكرنا، ان التبدل الدائم في القوانين، والنقض المستمر الّذي يورد عليها، بحيث تحتاج في كل يوم إلى استثناء بعض التشريعات وزيادة أخرى، إضافة إلى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر، كل ذلك دالّ على قصورها عنه الوفاء بحاجة المجتمعات إليها، وما ذلك إلا لقصورهم عن معرفة الإنسان حقيقة المعرفة، سائر الشروط في واضعيها.
فتلخص من هذا الدليل أُمور
الأول: أَنَّ الأنسان يميل إلى الحياة المدنية، إما لكونه "مدنياً بالطبع" أو لكونه "مستخدماً بالطبع".
الثاني: أَنَّ الحياة الإجتماعية لا تستقر إلا بتعرف أعضاء المجتمع على وظائفهم وحقوقهم، وهذا لا يتسنى الا بالتقنين.
الثالث: أَنَّ مهمة التقنين الشاقة لا يقوم بها إلا من اجتمعت فيه عدّة شروط أهمها: معرفته الكاملة بالإنسان، وعدم انتفاعه من القانون الّذي يجعله، وأن يبني قانونه على صَرْح الإِيمان.
الرابع: أنّ تلك الشروط لا توجد على وجه الكمال إلاّ في الله سبحانه خالق البشر.
فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقفاً على التقنين الإلهي، فالواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم، ليوقفهم على ما في سعادتهم. والحامل لرسالة الله سبحانه هو النبي المنبئ عنه والرسول المبلغ إلى الناس، ويَثْبُتُ بذلك أنّ بعث الانبياء واجب في حكمته تعالى حفظاً للنظام المتوقف على التقنين الكامل.
إشارة إلى هذا الدليل في الذكر الحكيم
إنّ في الكتاب الحكيم ما يشير إلى هذا الدليل، وهو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25).
فجعل القيام بالقسط الّذي هو عبارةٌ أخرى عن ضبط المجتمعات بالنظم والقوانين ليحصل التآزر والتآلف المطلوبين لتأمين الأرضية الصالحة لسلوك الإنسان إلى معين السعادة، جعله علةً وغايةً لإرسال الرسل، فالقسط لا يتحقق إلا بالتسنين الصحيح والتقنين الكامل الّذي لا يقوم به إلا خالق الإنسان وبارئه.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص20-29
1- استدل المتكلمون بأدلة تقارب العشر على لزوم البعثة، فلاحظ تجريد الإعتقاد وشروحه.