ذهب جمهور المتكلمين من السنّة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة، ونُسب إلى أبي بكر الباقلاني (المتوفى سنة 403 هـ) تجويز الخطأ في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً، لا عمداً وقصداً.
قال صاحب المواقف: "أجمع أهل الملل والشرائع على عصمتهم عن تعمُد الكذب فيما دلّت المعجزة على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله. وفي جواز صدوره عنهم على سبيل السهو والنسيان خلاف، فمنعه الأُستاذ وكثير من الأئمة، لدلالة المعجزة على صدقهم، وجوّزه القاضي مصيراً منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالعجزة"1.
هذا رأي الأشاعرة، وأمّا المعتزلة فإليك رأيهم بلسان القاضي عبد الجبّار، قال:
"إنّا لا نجوز عليه (النبي) السهو والغلط فيما يؤدّيه عن الله تعالى، و إنّما نجوّز عليه أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل، وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغاير منه شيئاً. فإذا فعله مرة لمصالحه، لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط. ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الّذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك"2.
أقول: نظر القاضي في الإستثناء هو أنّ النبي لا يسهو في التبليغ، ولكن يعرض له السهو في عالم التطبيق. وقد نسبوا إليه السهو في الصلاة حيث سلّم في الركعة الثانية، فاعترض عليه ذو اليدين: "أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت".
ثم إنّا نقول: إن العصمة في مرحلة تبليغ الرسالة على وجهين:
أ- العصمة عن الكذب، وهو داخل في العصمة عن المعصية، الّتي تقدم البرهان عليها.
ب- العصمة عن الخطأ سهواً في تلّقي الوحي وتحمّله (وعيه) وأدائه، وهذا هو الّذي نركز البحث عليه.
إنّ الدليل الأول، أعني كون حصول الوثوق مرهوناً بالعصمة، كما يُثبت عصمة الأنبياء عن المعصية، فكذلك يُثبت عصمتهم في هذا المجال. ولأجل ذلك اكتفى به المحقق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق، إنْ في مقام الفعل والعمل، أو في مقام التبليغ والرسالة.
توضيح ذلك: إنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء، هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية الّتي ترشدهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل هذه الغاية إلاّبإيمان الناس بصدق المبعوثين وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه وأَنّ كلامهم وأقوالهم، كلامه وقوله سبحانه. وهذا الإذعان لا يحصل إلاّ بعد إذعان آخر، وهو اعتقاد مصونيتهم عن الخطأ في المراحل الثلاث من مراحل تبليغ الرسالة، أعني: التلقّي، والتحمّل، والأداء.
القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
إنّ في الذكر الحكيم آيات تدلّ على مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ الرسالة بجوانبها المختلفة، من تلقي الوحي فوعيه وحفظه، إلى إبلاغه.
الآية الأولى: قوله تعالى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَىَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾(البقرة:213).
إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف بعثة الانبياء، القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه. وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير ولا تحريف.
ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمَنَ مِنَ الناس إلى الحق بإذنه، كما هو صريح قوله: ﴿فَهَدى الله الذينَ آمَنوا لما اخْتَلَفوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِه﴾. والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي بوساطته. وتحقق الهداية منه، فرع كونه واقفاً على الحق بكماله وتمامه. من دون تحريف ولا زيادة أو نقصان. وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي وتحمله وإبلاغه إلى الناس.
والحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلاً، ويهدي المؤمنين إليه ثانياً. وهذا يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه، ومبلّغاً له على نحو ما تلقّاه ووعاه.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:3-4).
فالاّية تصرِّح بأنّ النبي لا يتكلم بداعي الهوى، والمراد منه إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها، كما هو مقتضى إطلاقها، أو خصوص ما يحكيه عن الله سبحانه. وعلى كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته وعصمته في مجال تبليغ الرسالة: تلقّي الوحي ووعيه وإبلاغه.
الآية الثالثة: قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً﴾(الجن:26-28).
وموضع الدلالة من الآية
أ - قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾.
ب - قوله: ﴿مِنْ خَلْفِهِ﴾.
ج - قوله ﴿أَحاطَ بما لَدَيْهِمْ﴾.
فالإمعان في هذه النقاط الثلاث، يظهر أنّ مشيئة الله تعالى الحكيمة، تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه، وإليك توضيح الدلالة بتوضيح مفردات الآية.
1- قوله: (فَلاَ يُظْهِرُ). الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان، كما في قوله سبحانه: ﴿وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْض...﴾(التحريم: 3).
2- لفظ "مِنْ" في قوله: (مِنْ رسول)، بيانية. تبيّن المّرْضيَّ عند الله. فالرسول هو الّذي ارتضاه الله تعالى واختاره ليُعَرِّفه على الغيب.
3- الضمير في قوله: (فإِنَّهُ يَسْلُكُ)، يرجع إلى الله تعالى. كما أنّ الضمير المستتر في قوله: (يَسْلُكُ)، يرجع إليه سبحانه أيضاً. و"يسلك" بمعنى يجعل.
4- الضمير في قوله: (بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفِهِ)، يرجع إلى الرسول، والمراد من الأول ما بَيْنه وبين الناس، وهم المُرْسَل إليهم، فإنّ النبي يواجه الناس، وهم في مواجهته وبين يديه، كما أنّ المراد من الثاني، ما بين الرسول ومصدر الوحي الّذي هو الله سبحانه. وإنّما عبّر بالخَلْفِ، لأنّ النبي بُعث من الله إلى الناس، فالله خَلْفَه والناس أمامه بهذا الإعتبار.
5- قوله: (رَصَداً) الرصد هو الحارس الحافظ، يطلق على الجمع والمفرد.
والتدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ الوحي مصون ومحفوظ من لدن إفاضته من الله سبحانه، إلى وصوله إلى الناس، فإنّها تَعْتَبر الوحي فيضاً متصلاً من المرسِل (بالكسر) إلى المرسَل إليهم.
إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل، ومنهم إلى الناس، بأنّه محروس بالحَفَظَة يمنعون تطرق أي خلل وانحراف فيه، حتى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى. ويعلم هذا بوضوح ممّا تذكره الآية أنّ الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أُرسل إليهم (من بين يده) وبَيْنَهُ ومصدرِ الوحي (ومن خلفه)، رصداً مراقبين، هم الملائكة. وليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلاّ الحفاظ على الوحي من كل تخليط وتشويش، بالزيادة والنقصان، الّتي ربما يقع النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة، أو معها. فإذا كان الوحي بهذه المثابة من الحراسة والمصونية في كلا المرحلتين، أعني المتقدمة وهي من حين الإفاضة من المرسِل إلى حين البلوغ إلى النبي والمتأخرة وهي إبلاغه إلى الناس كان كذلك فيما بينهما، أعني مرحلة الحفظ والوعي، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو تدخل الواهمة لتغييره وتبديله. ولولا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى.
ثم إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أُخريين:
الأولى، قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغوا رِسالات رَبِّهِمَ﴾، فإنَّها علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه. والمراد من العلم، التحقق الخارجي، على حدّ قوله سبحانه: ﴿...فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(العنكبوت:3)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات الله على ما هي عليه من غير تبديل ولا تغيير، وهو أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه يتوقف على جعل الرصد والحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ والوعي والإبلاغ.
والثانية، قوله: ﴿وأَحَاطَ بما لَدَيْهمْ﴾. فإنّها أيضاً جملة مؤكدة لجعل الحراسة، ومعناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي، فيكون في أمان من تطرّق التحريف.
وأمّا قوله: ﴿وأَحصى كُلَّ شيء عددا﴾، فَمَسوقٌ لإفادة عموم علمه بكلِّ شيء، من غير فرق بَيْنَ الوحي المُلْقى إلى الرسول وغيره.
وخلاصة الكلام: إنّ الوحي كالماء الصافي الزلال، المنحدر من معينه، ينزل من مصدره وهو خزائن علم الله تعالى، إلى النبي، ومنه إلى الناس، من دون أن يتطرق إليه التحريف والتبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في النبي، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير.
قال العلامة الطباطبائي، بعد بحثه في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه: "إنّ الرسول مؤيَّدٌ بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه، وفي حفظه، وفي تبليغه إلى الناس، مصونٌ من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً. لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّل الله من دينه على الناس من طريق الوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس. ومن مراحله، مرحلة أخذ الوحي وحفظه وتبليغه، والتبليغ يعمّ القول والفعل، فإنّ في الفعل تبليغاً، كما في القول. فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين. فهو معصوم من فعل المعصية، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً"3.
وفي ضوء هذه الآية الكريمة يمكن القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ والإشتباه فيما يرجع إلى الرسالة والوحي، لا يرجع إلى ذواتهم وكيانات وجودهم، بل إلى عامل أو عوامل، خارجة عن ذواتهم، كالملائكة الرَّصّد، الحافظين لهم من كل خطأ وزَلَّة، والآخذين بأيديهم في مظانّ مزالق الألسن والأيدي والأقدام وسائر الجوارح.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص183-189
1- المواقف، ص 358.
2- المغنى، ج 1، ص 281.
3- الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 133.