حلّ عدة شبهات
طرحت بعض الشبهات حول عصمة الأنبياء عليه السلام نستعرضها في ما يلي ونجيب عنها
الشبهة الأولى: إذا كان الله تعالى هو الذي قد عصم الأنبياء ونزههم عن إرتكاب المعاصي، حيث يلزم من ذلك أنه ضمن ممارستهم للوظائف والتكاليف فانه في هذه الحالة سوف لا تثبت لهم أية ميزة إختيارية، ولا يستحقون أي ثواب لممارستهم الوظائف والتكاليف، والإجتناب عن المعاصي، لأن الله تعالى لو جعل أي شخص آخر معصوما لكان مثلهم تماما لأنه تعالى هو الذي منحه العصمة ووفرها فيه.
الجواب عن هذه الشبهة: تقدم أن العصمة لا تعني الجبر على القيام بالوظائف والتكاليف وترك المعاصي، وحين نقول إن الله عاصم المعصومين وحافظهم، فلا نعني بذلك نفي إستناد الأفعال الاختيارية اليهم، ذلك لأن كل الظواهر وإن إستندت في نهاية سلسلتها إلى الإرادة التكوينية الإلهية، وفي ذلك المجال الذي توجد فيه عناية وتوفيق خاص من قبل الله، لذلك يتأكد أكثر إسناد العمل للّه ولكن الإرادة الإلهية في طول إرادة الإنسان لا في عرضها، وليست بديلة عنها وقائمة مقامها.
ولكن هذه العناية الإلهية الخاصة بالنسبة للمعصومين هي كسائر الوسائل والظروف والإمكانات الخاصة التي توفر لبعض الأفراد المعينين، مما يؤدي إلى أن تكون مسؤوليتهم أكبر وأثقل، وكما أن الثواب على عملهم يتضاعف فإن العقاب على المخالفة أشد، وبهذا الشكل يتم التوازن بين الثواب والعقاب، وإن كان المعصوم لحسن إختياره لا يكون مستحقا للعقاب، ويلاحظ مثل هذا التوازن في حالة كل الذين يتمتعون بنعمة خاصة، كما هو الحال بالنسبة للعلماء والمنتسبين لأهل البيت عليه السلام "﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾(الأحزاب:32)" فأن مسؤوليتهم أثقل وأكثر خطورة من غيرهم، وكما أن الثواب على اعمالهم الخيرة أكثر، فكذلك العقاب على ذنوبهم على تقدير إرتكابها أشد1.
الشبهة الثانية: إن الأنبياء وسائر المعصومين عليه السلام يعتبرون أنفسهم من المذنبين، كما ينقل عن أدعيتهم ومناجاتهم، وينقل أيضا إستغفارهم من الذنوب، ومع صدور مثل هذا الإعتراف والإقرار منهم، فكيف نعدهم معصومين؟
والجواب: إن المعصومين عليهم السلام قد إرتفعوا إلى أسمى درجات الكمال والقرب الإلهي مع ملاحظة اختلاف مراتبهم لذلك يشعرون بأنهم مكلفون بوظائف ومهام تفوق وظائف الآخرين، بل إنهم يعتبرون أي توجه وإلتفات منهم لغير معبودهم ومحبوبهم ذنبا كبيرا، ومن هنا يقفون موقف الإستغفار والإعتذار.
وقد ذكرنا سابقا أن عصمة الأنبياء، لا تعني أن يكون المعصوم منزها عن كل عمل يطلق عليه (معصية) بوجه ما، ولو بمفهومها الواسع، بل إنما نعني تنزيهه عن مخالفة التكاليف الإلزامية، وعن إرتكاب المحرمات الفقهية لا كل ما يطلق عليه معصية.
الشبهة الثالثة: ذكرت بعض الآيات القرآنية الدالة على عصمة الأنبياء أنهم يعتبرون من (المخلصين)، ولا يطمع الشيطان فيهم، مع أن القرآن الكريم نفسه يذكر بعض تصرفات وتأثيرات الشيطان في الأنبياء عليه السلام، منها ما ورد في الآية (27) من سورة الاعراف: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة﴾. حيث تنسب للشيطان خداعه لآدم وحواء، والذي أدى إلى خروجهما من الجنة، وفي الآية (41) من سورة ص على لسان أيوب: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب﴾.
وفي الآية (52) من سورة الحج: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه﴾. حيث نسب نوعا من الوساوس الشيطانية لجميع الأنبياء.
والجواب: لم يلحظ في هذه الآيات أي تصرف أو تأثير شيطاني أدى إلى مخالفة الأنبياء عليه السلام للتكاليف الإلزامية، أما الآية (27) من سورة الأعراف، فتشير إلى وسوسة الشيطان لآدم وحواء للأكل من (الشجرة المنهية) فإنه لم يتعلق نهي تحريمي بالأكل، بل الوارد فحسب هو تذكير آدم وحواء وتنبيههما على أن الاكل منها سيؤدي إلى الخروج من (الجنة) والهبوط إلى (الأرض)، وأن وسوسة الشيطان سببت مخالفتهما لهذا النهي الإرشادي، والملاحظ أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف، ولم تنزل شريعة بعد، وأما الآية (41) من سورة ص فإنها تشير إلى المتاعب والتحديات التي توجهت لأيوب عليه السلام من قبل الشيطان، وليس فيها أية دلالة على مخالفته للأوامر والنواهي الإلهية، وأما الآية (52) من سورة الحج فهي مرتبطة بالعراقيل التي يواجه بها الشيطان نشاطات الأنبياء عليهم السلام جميعا، والعقبات التي يضعها في سبيل وصولهم إلى أهدافهم في مجال هداية الناس، وأخيرا فإن الله تعالى يبطل مكر الشيطان وحيله، ويثبت الدين الحق.
الشبهة الرابعة: في الآية (121) من سورة طه، نسب العصيان لآدم عليه السلام، وفي الآية (115) من السورة نفسها نسب النسيان له عليه السلام، فكيف تتلاءم مثل هذه النسبة مع عصمته؟
والجواب عن هذه الشبهة: هو ما تقدم من أن المعصية والنسيان لم يكونا مرتبطين بالتكليف الإلزامي.
الشبهة الخامسة: نسب الكذب في القرآن الكريم لبعض الأنبياء، ومن الآيات التي تدل على ذلك، الآية (89) من سورة الصافات نقلا عن إبراهيم عليه السلام: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيم﴾.
مع أنه لم يكن مريضا، والآية (63) من سورة الأنبياء نقلا عنه ايضا: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾.
مع أنه هو الذي حطم أصنامهم، والآية (70) من سورة يوسف: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّن أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾.
مع أن إخوة يوسف لم يرتكبوا السرقة.
والجواب: إن هذه الأقوال إنما صدرت من باب التورية (إرادة معنى آخر) لأجل بعض المصالح الأكثر أهمية كما اشير إلى ذلك في بعض الروايات، ويمكن أن يستظهر من بعض الآيات أن هذه الأقوال كانت بإلهام إلهي، كما في قصة يوسف حيث يقول تعالى: (كذلك كدنا ليوسف)، وعلى أي حال فلا يعتبر مثل هذا الكذب معصية، ولا يخالف العصمة.
الشبهة السادسة: ورد في قصة موسى عليه السلام أن قبطيا تشاجر مع رجل من بني إسرائيل، فقتله موسى عليه السلام، ولأجل ذلك هرب من مصر. وحين بعثه الله تعالى لدعوة الفراعنة قال: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنب فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُون﴾(الشعراء:20).
وحينما ذكره فرعون بالقتل أجاب موسى: ﴿قَال فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّين﴾(الفتح:2). فمثل هذه الحكاية كيف تتلاءم وعصمة الأنبياء قبل بعثتهم؟
والجواب: أولاً: إن قتل القبطي لم يكن عمديا، بل كان نتيجة ضربة إصابته اتفاقا ودون تعمد من موسى لقتله.
ثانياً: إن الآية "ولهم عليّ ذنب"، التي وردت على لسان موسى كانت وفق نظر الفراعنة، والمراد أنهم يعتبرونني قاتلاً ومذنباً، وأخاف أن يقتلوني قصاصا.
ثالثاً: أما الجملة "وأنا من الضالين" اما أنه قالها مجاراة للفراعنة وتمشيا معهم، بأنني على تقدير أنني كنت ضالا آنذاك فهداني الله، وأرسلني بهذه البراهين القاطعة. أو المراد من (الضلال) عدم المعرفة بعواقب العمل، وعلى كل حال، فلا تدل على مخالفة موسى للتكليف الإلزامي الإلهي.
الشبهة السابعة: في الآية (94) من سورة يونس قال تعالى مخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين﴾.
وفي الآيات (147) من سورة البقرة، و(60) من آل عمران، و(114) من الانعام و(17) من هود و(23) من سورة السجدة، ينهى فيها الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الشك والترديد، فكيف يمكن القول بأن إدراك الوحي لا يقبل الشك والتردد؟
والجواب عن هذه الشبهة: إن هذه الآيات لا تدل على وقوع الشك والترديد فعلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنها في صدد التأكيد على هذه الملاحظة بأنه لا مجال للشك والترديد في رسالته، وفي أن القرآن الكريم، ومحتوياته على حق، وفي الواقع أن مثل هذا الخطاب من باب (إياك اعني واسمعي يا جارة).
الشبهة الثامنة: نسبت في القرآن الكريم بعض الذنوب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد غفرها الله له، يقول القرآن الكريم: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر﴾(الفتح:2).
والجواب: إن المراد من الذنب في هذه الآية الشريفة، الذنب الذي وجهه المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها، وهو إهانته لأصنامهم وآلهتهم، والمراد من المغفرة، مواجهة الآثار التي يمكن ترتبها على ذلك وإزالتها، والشاهد على هذا التفسير، إنه إعتبر فتح مكة سببا لمغفرته حيث يقول: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر). واذا كان المراد من الذنب المعنى المصطلح فلا وجه لتعليل المغفرة بفتح مكة.
الشبهة التاسعة: يقول القرآن الكريم حول زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوجة زيد بن حارثة (متبنى النبي) المطلقة: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه﴾(الأحزاب:37).
فكيف يتلاءم مثل هذا القول مع العصمة.
الجواب: إن مثل هذا العمل الذي صدر بأمر الله، ومن أجل القضاء على تقليد من التقاليد الجاهلية المنحرفة (حيث كان يعتبر المتبنى كالإبن من النسب) كان يخشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمله الناس لضعف إيمانهم على ميوله ورغباته الشخصية، وان يؤدي ذلك إلى إرتدادهم عن الدين، وقد أطلعه الله تعالى في هذه الآية الشريفة على أن المصلحة في مكافحة هذا التقليد المنحرف أكثر أهمية، والأجدر به أن يكون أكثر خشية وخوفا من مخالفة الإرادة الإلهية القائمة على مكافحة نبيه عمليا لهذا التقليد الخاطئ، إذن فهذه الآية ليست في مجال تأنيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوبيخه.
الشبهة العاشرة: إن القرآن الكريم يعاتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع عديدة، منها حين أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الأفراد بترك القتال حيث يقول تعالى: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾(التوبة:43).
ومنها: تحريم بعض الأمور المحللة إرضاء لبعض زوجاته: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِك﴾(التحريم:1).
فكيف ينسجم هذا العتاب مع عصمته؟
والجواب: إن مثل هذا الخطاب في واقعه (مدح بأسلوب العتاب) حيث يدل على مدى ما كان يملكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شفقة وحنان حتى على المنافقين ومرضى القلوب، حيث لم يبعث اليأس فيهم، ولم يكشف عن أسرارهم، وأيضا حين يقدم مرضاة زوجاته على رغباته وميوله، ويحرم باليمين عملا مباحا في حقه، وهذا لا يعني، (والعياذ بالله) أنه يحاول تغيير حكم الله، وتحريم الحلال على الناس. وفي الواقع إن هذه الآيات من ناحية ما نظير الآيات التي تشير إلى جهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكبيرة وإهتمامه البالغ وحرصه الشديد لهداية الكفار، أمثال قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِع نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(الشعراء:3).
او الآيات التي تدل على ما يبذله من جهد ومشقة في سبيل عبادة الله مثل: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾(طه:1-2).
وعلى كل حال، فلا تنافي هذه الآيات عصمته صلى الله عليه وآله وسلم.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص118-124.
1- كما ذكر ذلك في الرواية التالية "يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد".