حلّ عدة شبهات
طرحت بعض الشبهات حول مسألة الإعجاز، وفيما يلي نستعرضها ونجيب عنها.
الشبهة الأولى: إن لكل ظاهرة مادية علة خاصة، يمكن التعرف عليها من خلال التجارب العلمية، وعدم التعرف على علة ظاهرة نتيجة لنقص أدوات التجربة ووسائلها، لا يمكن أن يعتبر دليلا على عدم وجود العلة العادية لتلك الظاهرة، نعم يمكن الإعتراف بأمر واحد في الظواهر الخارقة للعادة، وهو أنها وجدت بسبب علل وعوامل مجهولة، وغير معروفة وعلى أكثر التقادير، نعتبر التعرف على عللها في ذلك الزمان الذي لم تعرف فيه بعد أمراً معجزاً، أما أن ننكر وجود العلل التي يمكن إكتشافها ومعرفتها من خلال التجارب العلمية، فإن هذا يعني نفيا لمبدأ العلية وهو باطل.
والجواب: إن مبدأ العلية لا يقتضي أكثر من أن تكون لكل موجود مرتبط ومعلول علة ما، ولكن هذا المبدأ لا يفرض أن تكون كل علة قابلة للمعرفة والإكتشاف من خلال التجارب العلمية، ولا يوجد أي دليل على ذلك، لأن ميدان التجارب العلمية ومجالها محدد بالأمور الطبيعية، ولا يمكن أن يثبت من خلال أدوات المختبرات وأجهزتها وجود أمور ما وراء الطبيعة أو نفيها، أو عدم تأثيرها.
أما تفسير الإعجاز بالتعرف على العلل المجهولة فغير صحيح، ذلك لأن هذه المعرفة إن توصل إليها من طريق العلل والعوامل العادية، فلا يكون هناك فرق بينها وبين سائر الظواهر العادية، ولا يمكن إعتبارها بأي وجه كان أمرا خارقا للعادة. أما لو حصلت المعرفة المذكورة بصورة غير عادية، فإنها وإن كانت أمرا خارقا للعادة وفيما لو كانت مستندة إلى إذن خاص من الله تعالى، وصدرت كدليل على صدق النبوة ستعتبر من أقسام المعجزة (المعجزة العلمية)، كما في معرفة عيسى عليه السلام ما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم، حيث اعتبرت من معجزاته "﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(آل عمران:49)". ولكن لا يمكن حصر المعجزة بهذا القسم، ونفي سائر أقسامها، وأخيرا يبقى التساؤل عن الفرق بين هذه الظاهرة وسائر الظواهر الخارقة للعادة في علاقتها بمبدأ العلية.
الشبهة الثانية: جرت السنة الإلهية على أن توجد كل ظاهرة من طريق علة خاصة، والآيات القرآنية تصرح بأنه ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾(الفتح:23)، ﴿َلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾(فاطر:43)1، وخرق العادة بمثابة التغيير والتبديل للسنة الإلهية، تنفيه هذه الآيات.
وهذه الشبهة كالسابقة، مع الفرق في أن الشبهة السابقة قد إستدل عليها بالعقل فحسب، وهذه الشبهة إستند فيها للآيات القرآنية.
والجواب: إن هذا الرأي الذي يعتبر حصر أسباب الظواهر وعللها في الأسباب والعلل العادية من السنن الإلهية التي لا تقبل التغير مثل هذا الرأي لا دليل عليه، ونظيره أن يدّعى بأن حصر علة الحرارة بالنار من السنن الإلهية التي لا تقبل التغيير!. ويمكن القول تجاه هذه الإدعاءات بأن تعدد أنواع العلل المختلفة لأنواع المعلولات، وقيام الأسباب غير العادية مقام الأسباب العادية هو مما يحدث في العالم دائما. ومن هنا يلزم اعتبار ذلك من السنن الإلهية، وحصر الأسباب بالأسباب العادية يعتبر تغييرا لها، تنفيه الآيات القرآنية الكريمة.
وعلى كل حال فتفسير الآيات الدالة على نفي التغير والتحويل في السنن الإلهية بأن لا يقوم مقام الأسباب العادية شيء وأنها من السنن التي لا تقبل التغيير يعد تفسيرا بلا دليل، بل هناك آيات كثيرة تدل على وقوع المعجزات وخوارق العادات تقف كدليل قوي على عدم صحة هذا التفسير، ولابد من البحث عن تفسيرها الصحيح في كتب التفسير. ونشير له هنا بإيجاز فنقول: بأن هذه المجموعة من الآيات الشريفية تستهدف نفي تخلف المعلول عن العلة، لا أنها تنفي تعدد العلة وقيام العلة غير العادية، مقام العلة العادية، بل يمكن القول بأن القدر المتيقن من مورد هذه الآيات، هو تأثير الأسباب والعلل غير العادية.
الشبهة الثالثة: جاء في القرآن الكريم أن الناس طالبوا نبي الإسلام صلى الله عليه وآله مرارا ببعض المعجزات، وخوارق العادات وإمتنع النبي صلى الله عليه وآله عن الإستجابة لطلبهم ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الأنعام:37) فإذا كان الاتيان بالمعجزات طريقا لإثبات النبوة، إذن فلماذا لم يستفد النبي صلى الله عليه وآله من هذا الطريق لإثبات نبوته؟
والجواب: أن هذه الآيات مرتبطة بالطلب الذي صدر منهم عنادا، أو لأهداف أخرى غير طلب الحقيقة ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(الأنعام:35)، بعد إتمام الحجة عليهم، وإثبات نبوته صلى الله عليه وآله بالطرق الثلاث (دلائل الصدق، وبشارات الأنبياء السابقين، وإظهار المعجزة) والحكمة الإلهية اقتضت عدم الإستجابة لهم.
وتوضيحه: إن الهدف من إظهار المعجزة وهي أمر استثنائي في النظام الحاكم في الكون وتصدر أحيانا استجابة لمطالبة الناس (مثال ناقة صالح عليه السلام) وأخرى تصدر إبتداء ومن دون مطالبتهم (كمعجزات عيسى عليه السلام) إنما هو التعريف بأنبياء الله، وإتمام الحجة على الناس، لا إلزامهم وقهر هم على قبول دعوة الأنبياء ولا إجبارهم على التسليم والإنقياد الجبري لهم، ولا توفير مشاهد اللهو والتسلية لهم، والتلاعب بنظام الأسباب والمسببات العادية.
ومثل هذا الهدف لا يقتضي الإستجابة لكل رغبة وطلب، بل إن الإستجابة احيانا مخالفة للحكمة ونقض للغرض، أمثال المطالبة ببعض الأعمال التي تسد طريق الإختيار، وتقهر الناس على تقبل دعوة الأنبياء عليهم السلام، أو الطلب الصادر عن دافع العناد، أو لأهداف أخرى غير البحث عن الحقيقة، وذلك لأنها من ناحية ستؤدي بالمعاجز للإبتذال، ويتجة الناس لمشاهدتها من أجل قضاء وقتهم في اللهو والتسلية، أو أنهم يلتفون حول الأنبياء مستهدفين تحقيق بعض المنافع الشخصية، ومن ناحية أخرى، ستزول أجواء الإمتحان والإختبار والإختيار الحر، وسيتبع الناس الأنبياء عن إكراه، خاضعين لتأثير عوامل الضغط والقهر، وكلا الناحيتين مخالف للحكمة والهدف من إظهار المعجزات.
وأما في غير هذه المجالات، وحين تقتضي الحكمة الإلهية فان الأنبياء سيستجيبون لطلب الناس، كالمعاجز الكثيرة التي أتي بها نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، وقد ثبت نقل بعضها بالتواتر، وفي مقدمتها معجزته الخالدة أي القرآن الكريم.
الشبهة الرابعة: إن المعجزة من جهة إناطتها بالإذن الإلهي الخاص يمكن أن تكون دليلا وآية على وجود الإرتباط الخاص بين الله وحامل المعجزة، بدليل منحه هذا الإذن الخاص له خاصة، وبعبارة أخرى: قد تحقق عمله بيده، وعن طريق إرادته، ولكن لا يلزم عقلا من هذا الإرتباط أن يكون هناك إرتباط آخر بين الله تعالى وحامل المعجزة، وأنه رسول وقد تلقى الوحي منه، اذن فالمعجزة لا يمكن أن تعتبر دليلا عقليا على صحة دعوى النبوة، وأكثر ما تدل عليه في هذا المجال أن تكون دليلا ظنيا وإقناعيا عليها فحسب.
والجواب: إن العمل الخارق للعادة، وان كان من نوع الخرق الإلهي للعادة، لا يدل بنفسه على وجود علاقة الوحي، ومن هنا لا يمكن أن تعتبر كرامات أولياء الله دليلا على نبوتهم، ولكن الحديث هنا هو حول ذلك الشخص الذي إدعى النبوة، وأظهر المعجزة دليلا وآية على صدق دعواه، واذا افترضنا أن هذا الشخص إدعى النبوة كذبا، فهذا يعني أنه قد إرتكب أعظم المعاصي وأبشعها، ويترتب على عمله أسوأ المفاسد في الدنيا والآخرة.
ومثل هذا الشخص لا يصلح أبدا لمثل هذا الإرتباط بالله تعالى، ولا تقتضي الحكمة الإلهية تزويده بالقدرة على إظهار المعجزة، ليكون سببا في ضلال العباد وإنحرافهم.
والحاصل: إن العقل يدرك بوضوح أن الشخص الذي يصلح لهذا الإرتباط الخاص مع الله تعالى، والتزود بالقدرة على إظهار المعجزات، إنما هو الشخص الذي لا يخون مولاه، ولا يكون سببا في ضلال العباد وشقائهم الأبدي.
إذن فإظهار المعجزة دليل عقلي قاطع على صحة دعوى النبوة. وإن من يدعي النبوة صادق في دعواه.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص132-136
1- الأحزاب:62، الفتح:23.