إنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء، هداية الناس إلى المعارف العليا الراجعة إلى المبدأ والمعاد، وما يضمن سعادتهم في حياتهم الدنيوية والأُخروية بالعمل بالأحكام الشرعية. ولأجل تحقق تلك الغاية يشترط أن يكون النبي على كمال المعرفة بتلك المعارف والأحكام، مُسْتَقِياً لها من معينها ومصدرها، معرفةً لا جهل فيها، ولا شك ولا شُبْهَة.
وعلى ذلك ليس الأنبياء مجتهدين في استنباط المعارف والأحكام والوظائف العملية، فإنّه أمر لا يخلو عن الجهل والإشتباه والخطأ. فما أوهن ما ذكره القوشجي في تصحيح تحريم المتعتين من جانب الخليفة عمر تجاه تحليل النبي لها، بقوله: "إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قَدْحاً فيه (الخليفة)، فإنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الإجتهادية ليس ببدع!!"1.
فيلاحظ عليه
أولاً: إنّ النصوص القُرآنية تضافرت على أنّ ما يحكم به النبي، عن وحي إلهي لا يتطرق إليه السهو والخطأ، كما قال عزّ من قائل: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:3-4).
وقال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾(يونس:15).
وقال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْري مَا يُفْعَلُ بي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾(الأحقاف:9).
وقد حظر تعالى على نبيّه العجل ولو بحركة لسان، فقال عزّ وجل: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾(القيامة:16-19).
فحينئذ لا يسوغ لأحد مخالفته ولا الإجتهاد في مقابل قضائه وحكمه أصلاً. كيف يكون ذلك، وقد قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً﴾(الأحزاب:36).
وقال سبحانه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِي مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(النساء:65).
إلى غير ذلك من الآيات الّتي تبعث على طاعة النبي والأخذ بما أتى به، والإنتهاء عمّا نهى عنه، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(الحشر:7).
فإنّ كل ذلك يكشف عن أنّ كل ما يؤدّيه النبي لا يُؤدّيه من تلقاء نفسه، ولا دخالة لفكره وشعوره فيه، وإنّما هو إفاضة من ربّ العالمين إلى ذهنه ولوح عقله ليؤدّيه إلى الأُمة بلا تصرف ولا تدخّل.
وثانياً: إنّ الإجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في فهم حكم الله تعالى من الحجج الأربع ومنها السنّة، وهي قول النبي وفعله وتقريره. فإذا كان هذا معنى الإجتهاد، فما معنى مخالفة الحجة باسم الإجتهاد. إن هو إلاّ اجتهاد في مقابل الوحي، وهو ساقط قطعاً.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص213-215
1- شرح التجريد للقوشچي، ص 484.