االإيمان بالغيب
عنصرٌ أساسيٌ في
جميع الشرائع
السماوية، ولو
انتزع هذا العنصر
عن الدين الإلاهي،
لأصبح دستوره
دستوراً عادياً
شبيهاً بالدساتير
والأيديولوجيات
المادية البشرية
الّتي لا تمت إلى
الخالق والمدبّر
لهذا الكون بصلة.
ولأجل ذلك نرى
أنّه سبحانه
يَعُدّ الإيمان
بالغيب في طليعة
الصفات الّتي
يتّصف بها
المتّقون إذ يقول
عزّ من قائل:
﴿الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ وَ
يُقِيمُونَ
الصَّلَوةَ وَ
مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ﴾
(البقرة:3).
وقد كان أصحاب
الشرائع
وأنصارها، وفي
مُقدِّمتهم علماء
الإسلام، محتفظين
بهذا الأصل،
معتصمين به أشدّ
الإعتصام،
مؤكّدين عليه
غاية التأكيد،
باعتبار أنّه
الفارق الجوهري
بينها، وبين
الأنظمة البشرية.
ولكن، من جانب
آخر إنّ الحضارة
المادية الحديثة،
اعتمدت على الحسّ
والتجربة، وأعطت
كل القيمة والوزن
لما أيّدته أدوات
المعرفة المادية.
وقد أدهشت هذه
الحضارة، جماعة
من المفكرين
المسلمين، فوجدوا
أنفسهم في صراع
عنيف بين الإيمان
بالغيب، باعتباره
عنصراً أساسياً
في الدين، ومبادئ
الحضارة المادية
الّتي لا
تَعْتَبِر إلاّ
ما كان قائماً
على الحسّ
والتجربة، فمن
الجهة الأولى لم
يجرؤا على إنكار
ما هو خارج عن
إطار أدوات
المعرفة
المادية "
كالمعاجز "
لأنّهم مسلمون،
ومن الجهة
الثانية، لم
يتجرؤا على
التصريح بوجود
الملائكة والجن،
وبخرق المعاجز
للسنن الطبيعية
والأسباب
المادية، تحرزاً
من رمي الماديين
إيّاهم بالخرافة،
والإيمان بما لا
تؤيّده التجربة
ولا يثبته الحسّ.
ولأجل ذلك سلكوا
طريقاً وسطاً،
وهو تأويل بعض ما
جاء في مجال
الغيب، خصوصاً
المعاجز
والكرامات، حتى
يستريحوا بذلك من
هجمة الماديين،
ويرضوا به طائفة
المتدينين.
ومّمن سلك هذا
الطريق الشيخ
محمد عبده1في
مناره، والطنطاوي
2في
جواهره، وتلامذة
منهجهما. فمن وقف
على كلا
التفسيرين في
المواضع الّتي
يحُدّث القرآن
فيها عن معاجز
الأنبياء وخوارق
العادات، يقف على
أنّ الرجلين
يسعيان بكل حول
وقوة إلى تصوير
الحوادث
الإعجازية،
وكأنّها جارية
على المجاري
الطبيعية، غيرُ
مخالفة أصول
الحسّ والتجربة3.
بل ربما نرى أنّ
بعض مُقْتَفي
منهجهما ينكرون
أنْ يكون للنبي
الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم
معجزة غير القرآن
الكريم، وقد
تبعوا في نفي
معاجزه، قساوسة
النصارى الذين
يحالون إنكار
معاجز النبي
الكريم ليتسنى
لهم بذلك تفضيل
سيدنا المسيح
عليه السَّلام
أولاً، وإنكار
نبوته لكونه
فاقداً للمعاجز،
ثانياً4.
وهم يتمسكون في
هذا المجال بعدّة
آيات5
خفي عليهم المراد
منها، ونحن نكتفي
في المقام بتفسير
واحدة منها، لم
يزل يتمسك بها كل
برّ وفاجر منهم،
وهي:
قوله سبحانه:﴿وَ
لَقَدْ
صَرَّفْنَا
لِلنَّاسِ فِي
هَذَا الْقُرْآنِ
مِنْ كُلِّ مَثَل
فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلاَّ
كُفُورًا * وَ
قَالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ
الأَرْضِ
يَنْبُوعاً *
أَوْ تَكُونَ
لَكَ جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيل وَ
عِنَب
فَتُفَجِّرَ
الأَنْهَارَ
خِلاَلَهَا
تَفْجِيراً *
أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ
عَلَيْنَا
كِسَفاً أَوْ
تَأْتِىَ بِاللهِ
وَ
الْمَلاَئِكَةِ
قَبِيلاً * أَوْ
يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُف أَوْ
تَرْقَى فِي
السَّمَاءِ وَ
لَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ
حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنَا
كِتَاباً
نَقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي
هَلْ كُنْتُ
إِلاَّ بَشَراً
رَسُولاً﴾(الإسراء:89
ـ 93).
وقد استدلّ بها
بعض القساوسة
قائلاً: إنّ
نبيَّ الإسلام
لما طُولِبَ
بالمعجزة، أظهر
العجز بقوله إنّه
ليس إلاّ بشراً
رسولاً.
إنّ تحليل هذا
الإستدلال
ونَقْدِهِ،
يَتَوَقَّف على
دراسةِ كلِّ
واحدة من
المقترحات
المذكورةِ في
الآيات المتقدمة،
وهي:
1ـ أنْ يَفْجُرَ
لهم من الأرض
يَنْبوعاً.
2ـ أن يكون للنبي
جنّة من نخيل
وعنب، وتجري
الأنهار خلالها
بتفجير منه.
3ـ أن يُسقط
السماء عليهم
كسفاً.
4ـ أن يأتي بالله
والملائكة
قبيلاً.
5ـ أن يكون للنبي
بيت من زخرف.
6ـ أن يرقى النبي
في السماء، ولا
يكفي ذلك في
إثبات نبوته حتى
يُنَزِّل عليهم
كتاباً من السماء
يقرؤوه.
هذه هي مقترحات
القوم، ونحن نجيب
عليها بجوابين:
إجماليٍّ
وتفصيليٍّ:
إجمال
الجواب
عن هذه
المقترحات، أنّ
النبي صلى الله
عليه وآله وسلم
إنّما لم يأت بها
لعدم استجماعها
لشرائط الإعجاز،
إذ ليس القيام
بالمعجزة من
الأمور الفوضوية
الّتي لا تخضع
لشرط عقلي أو
شرعي. وهذه
المقترحات فاقدة
لها.
تفصيل
الجواب
أمّا الأول:
فإنّ سنة الله
الحكيمة في
الحياة البشرية
إستقرت على أن
يصل الناس إلى
معايشهم ومآكلهم
ومشاربهم عن طريق
السعي والجد،
تكميلاً لنفوسهم
وتربية لعزائمهم.
فإذا كان مطلوب
القوم أن
يُفَجِّر لهم
النبي ينبوعاً
وعيناً لا ينضب
ماؤها، ليستريحوا
بذلك من عناء
تحصيل الماء، فهو
على خلاف تلك
السنة الحكيمة.
نعم ربما تقتضي
بعض الظروف
كإبقاء حياة
القوم قيام النبي
بذلك، كما فعل
موسى عندما شكى
إليه قومه
الظمأَ، فاستسقى
الله تعالى لهم،
فأوحى إليه أنْ
يضرب بعصاه
الحجر، فانفجرت
منه اثنتا عشرة
عينا6،
ولكن مثل هذا لا
يعد نقضاً للسنة
العامة، كما أنّ
الظروف في مكة لم
تكن ظروفاً
إضطراريةً.
وأمّا
الثاني:
وهو كون النبي
مالكاً لجنة من
نخيل وعنب يفجّر
الأنهار خلالها،
فليس هو طلباً
للإعجاز، وإنّما
كانوا يستدلّون
بوجود الثروة على
عظمة الرجل،
وبالفقر وفقدان
المال والإملاق
على حقارته، ولذا
قالوا، كما يحكيه
عنهم تعالى:
﴿لَوْلاَ
نُزِّلَ هَذَا
الْقُرْآنُ عَلَى
رَجُل مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيم﴾(الزخرف:31).
وعلى هذا، فإجابة
هذا الطلب يكون
نوع اعتراف بهذه
المزعمة، إذ ليس
هناك رابطة،
عقلية بين كون
الرجل صاحب ثروة،
وكونه متصلاً
بالغيب. وإلاّ
لوجب أن يكون
أصحاب الثروات،
أنبياء إذا
ادّعوا النبوة.
وأمّا
الثالث:
وهو إسقاط السماء
عليهم، فإنّه
يضاد هدف
الإعجاز، لأنّ
الغاية من خرق
الطبيعة هداية
الناس لا إبادتهم
وإهلاكهم.
وأمّا
الرابع:
وهو الإتيان
بالله والملائكة،
فقد حكاه عنهم
سبحانه في آية
أخرى، بقوله:﴿وَقَالَ
الَّذِينَ لاَ
يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا
لَوْلاَ أُنْزِلَ
عَلَيْنَا
الْمَلاَئِكَةُ
أَوْ نَرى
رَبَّنَا﴾(الفرقان:21).
ومن المعلوم أنّ
هذا المقترح، أمر
محال عقلاً،
وممتنع بالذات،
فكيف يقوم به
النبي؟!.
وأمّا
الخامس:
وهو كونه صاحب
بيت من زخرف،
فيُرَدُّ بما
رُدَّ به
الإقتراح الثاني.
وأمّا
السادس:
وهو طلب
رُقِيِّهِ إلى
السماء وإنزال
كتاب ملموس
يقرؤونه، فإنّ
لحن هذا السؤال
يدلّ على عنادهم
وتعنتهم إذ لو
كان الهدف هو
الإهتداء، لكفى
طلبهم الأول أعني
رُقيّه إلى
السماء ولم تكن
حاجة إلى الثاني،
ومن المعلوم أنّ
النبيّ إنّما
يقوم بالإعجاز
لأجل الهداية
والإرشاد إلى
نبوته واتّصاله
بعالم الغيب.
ومجموع هذه
الأجوبة يوقفنا
على أنّ النبيّ
لَمْ يجب مطالبهم
إمّا لأجل فقدان
المقتضي أو لوجود
المانع. وعلى ذلك
أجاب بما أمره
سبحانه أن يجيبهم
به، قائلاً: (سُبْحان
رَبِّي هَلْ
كُنْتُ إِلاَّ
بَشَراً رَسَولاً).
وهو في هذا
الجواب يعتمد على
لفظين: "بَشراً"
و"رسولاً".
والمراد أنّ هذه
الطلبات الّتي
طلبتموها مني
إمّا لكوني
بشراً، أو لكوني
رسولاً. وعلى
الأول فقدرة
البشر قاصرة عن
القيام بهذه
الأمور، وعلى
الثاني، فهو
موقوف على إذنه
سبحانه، لأنّ
الرسول لا يقوم
بشيء إلاّ بإذن
مُرْسِلِه، وليس
ها هنا إذن، لعدم
استجماع هذه
الطلبات شرائط
الإجابة7.
وبالإجابة الّتي
ذكرناها عن هذه
الآيات، تقدر على
الإجابة عن كثير
من الآيات الّتي
اتّخذها نفاة
المعجزة ذريعة
لنظريتهم.
أضف إلى ذلك أنّه
كيف يمكن لأحد أن
ينكر معاجز النبي
الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم،
مع أنّ القرآن
الكريم يخبر عن
بعضها أولاً8والسنّة
متواترة بها،
ثانياً.
وليس إنكار
المعاجز وغيرها
مّما يرتبط
بالغيب
"كالملائكة
والجن" إلاّ
لفقدان الهوية
الإسلامية،
واتّخاذ موقف
الهزيمة في مقابل
الهجمات المادية،
الّتي أصبحت بحمد
الله تعالى،
وبفضل بحوث
العلماء الغيارى،
سراباً في صحراء.
*الإلهيات،آية
الله جعفر
السبحاني.مؤسسة
الامام الصادق
عليه السلام
،ج3،ص87-92
1- توفي سنة
1323 هـ ق1.
2- توفي سنة 1323
هـ ق.
3- لاحظ مثلاً ما
جاء في المنار، ج
1 ص 322، تفسير
قوله تعالى:﴿ثُمَّ
بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ﴾(البقرة:56).
وفيه أيضاً، ج 1
ص 343 ـ 344،
تفسير قوله
تعالى:﴿وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ
اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ
فَقُلْنَا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ﴾(البقرة:65).
وفيه أيضاً، ج 1،
ص 350 ـ 351،
تفسير قوله
تعالى:
﴿فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِهَا
كَذَلِكَ يُحْيِي
اللهُ الْمَوْتَى...
﴾(البقرة:
73). وغير ذلك من
الموارد.
4- راجع للوقوف
على كلمات
القساوسة في هذا
المجال، كتاب
"أنيس الأعلام"،
ج 5، ص 351.
5- هي
ثمانية عشر آية،
تعرض لها
الأستاذ، دام
ظله، في موسوعته
التفسيريّة
مفاهيم القرآن ج
4، ص 95 إلى 154.
6- ًلاحظ سورة
البقرة: الآية
60.
7- وإذا
أردت التفصيل،
فلاحظ "الميزان"،
ج 13، ص 217 ـ
218.
8- لاحظ في ذلك
الآيات التالية:
سورة آل
عمران: الآيتان
61 و 86، سورة
الأنعام: الآية
124، سورة
الإسراء: الآية
1. سورة الروم:
الآيات 1 ـ 3،
سورة الصافات:
الآيتان 14 ـ 15،
سورة القمر:
الآيات 1 ـ 4،
ولاحظ في تفصيل
هذه الآيات،
مفاهيم القرآن ج
4 ص 75.