إنّ تحديد حقيقة الوحي، وتبيين ماهيته والفرق بينه وبين سائر الإدراكات البشرية، من المواضيع الحساسة في أبحاث النبوة العامة الّتي لم يستوف حقها في الكتب الكلامية، فأُهمل في الكثير منها، وبحث في الأخرى على وجه الإجمال. هذا مع أنّه أساس النبوات والتكاليف والشرائع، لأنّ الأنبياء يتلقون التعاليم السماوية من هذا الطريق، ولولاه لانقطعت أخبار السماء1, وصلة الأنبياء بالله سبحانه.
ولكن لأجل اختصاص الوحي بالأنبياء، وحرمان غيرهم من الناس منه، يصعب تحديده وبيان كيفيته، ويُعَدُّ كشف الستر عن حقيقته، تطلّعاً إلى شيء ليس في اختيار الباحث، ومع ذلك كلّه، فإلقاء الضوء عليه بوجه إجمالي، ممكنٌ ببيان الأُمور التالية:
الأمر الأول: الوحي في اللغة
قال ابن فارس في المقاييس: "الوحي أصلٌ يدلّ على القاء علم في اخفاء (أو غيره)2، إلى غيرك. فالوحي: الإشارة، والوحي: الكتابة والرسالة وكل ما القيته إلى غيرك حتى عَلِمَهُ، فهو وحي كيف كان"... إلى أن قال: "والوحي: السريع. والوَحَى: الصوت"3.
وقال الراغب: "أصل الوحي الإشارة السريعة، وَلتَضَمُّنِ السُرعةِ قيل "أمر وَحْي". وقد يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِْمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾(مريم:11)4.
وقال ابن منظور: "الوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك. ويقال: وحيت إليه الكلام، وأوحيت، ووحى وَحْياً، وأوحى أيضاً، أي كتب"5.
والمستنبط من هذه النصوص وغيرها مّما أورده أهل اللغة في معاجمهم، أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء، بطريق من الطرق6.
الأمر الثاني: الوحي في القرآن الكريم
جاء استعمال "الوحي" في القرآن الكريم في موارد متعددة، ومختلفة، يجمعها المعنى اللغوي الكلي وهو الإعلام بخفاء، وهذا المعنى الجامع موجود في بعضها حقيقة، وفي البعض الآخر مجازاً وادعاءً، كما لو كان الموحى إليه جماداً أو حيواناً لا يعقل. ويظهر ذلك بالتدبر في الموارد التالية:
1- تقدير الخلقة بالسنن والقوانين
قال سبحانه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(فُصّلت:11-12).
القضاءُ: فَصْلُ الأمر. وضمير: "هُنّ"، يرجع إلى السماء. وبما أنّ السماء كانت دُخاناً، كان أمرها مبهماً غير مشخص من حيث الغاية والفعلية. ففصّل تعالى أمرها، فجعلها سبع سموات في يومين، وأَخرجها بذلك عن الإبهام.
وأمّا قوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا)، فالمراد أنّه سبحانه أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية، وقدّر عليها دوامها.
فإذا كان إيجاد السنن والنُّظُم في بواطن السموات ومكامنها، على وجه لا يقف عليه إلاّ المتدبر في عالم الخلقة، أشبه ذلك الإلقاءَ والإعلامَ بخفاء بنحو لا يقف عليه إلاّ الملقى إليه، وهو الوحي. فكان هذا كافياً في استعارة لفظ الوحي إلى مثل هذا التقدير والتكوين للسُنن، فقال: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا).
ومن هذا القسم، قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾(الزلزلة:1-5).
2- الإدراك بالغريزة
قال سبحانه: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الَّثمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكَ ذُلُلاً...﴾(النحل:68-69).
فكُلُّ الأعمال العجيبة والمدهشة الّتي يقوم بها النحل، في صنع بيوته بتلك الأشكال الهندسية المتقنة، وإدارتها وتدبيرها وحراستها، ثم الحركة الدؤوبة في التنقل بين البساتين والحقول، ومصِّ رحيق الأزهار، وتحويلها إلى عسل، ثم إيداعها في صفائح الشهد، وغير ذلك، فإنّما يقوم به عن غريزة إلهية مودعة في مكامن خلقته، وصميم وجوده، لا يتوانى معها عن عمله ولا يختار معه عملاً آخر.
وحيث إنّ هذا الإيداع للغرائز في مكان الخلقة أشبه بالإلقاء الخفي، وتلقّي النحل له بلا شعور وإدراك، أطلق عليه سبحانه الوحي فقال (وَأوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ).
3- الإلهام والإلقاء في القلب
قال سبحانه: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(القصص:7).
وحيث إنّ تفهيمَ أُمِّ موسى مصيرَ ولدها كانَ بإلهام وإعلام خَفي، عبّر عنه بالوحي.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي...﴾(المائدة:111).
وأيضاً، قوله تعالى في شأن يوسف عليه السَّلام : ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(يوسف:15).
وأيضاً قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾(الأنفال:12).
4- الإشارة
قال سبحانه حكاية عن زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَال سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِْمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾(مريم:10-11).
والمعنى: أشار إليهم من دون أن يتكلم، لأَمِرْهِ سبحانه إيَّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليال سوياً، فأشبه فعلُه، إلقاء الكلام بخفاء، لِكَوْن الإشارة أمراً مُبْهماً.
5- الإلقاءات الشيطانية
قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾(الأنعام:112).
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ..﴾(الأنعام:121).
ويعلم وجه استعمال الوحي هنا مّما ذكرناه فيما سبقه.
6- كلام الله تعالى المُنْزَل على نبي من أنبيائه
قال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الشورى:3).
وقد غلب استعمال الوحي في هذا القسم، فكلما أُطلق الوحي وجُرِّد عن القرينة يراد منه ما يُلقى إلى الأنبياء من قِبَل الله تعالى.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص123-128
1- هذا اقتباس من قول الإمام علي عليه السَّلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزه: "بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك، من النبوة والأنبياء وأخبار السماء، نهج البلاغة، الخطبة 235.
2- كذا في نسخة الأصل، والظاهر زيادته ويحتمل أن يكون عطفاً على العلم.
3- معجم مقاييس اللغة، ج 6 ص 93. الطبعة الأُولى ـ القاهرة ـ 1371.
4- المفردات: ص 515.
5- لسان العرب: ج 15، ص 379.
6- لاحظ تصحيح الإعتقاد للشيخ المفيد ، ص 56.