تمهيد عن الظاهرة
العامّة للنبوّة
كلّ شيء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الربّاني الصارم، الذي يوجّهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطوّر، فالبذرة يتحكّم فيها قانونها الذي يحوّلها ضمن شروط معينة إلى شجرة، والنطفة يتحكّم فيها قانونها الذي يطوّرها إلى إنسان، وكلّ شيء من الشمس إلى البروتون، ومن الكواكب السيّارة في مدار الشمس إلى الالكترونات السيّارة في مدار البروتون يسير وفق خطّة، ويتطور وفق إمكاناته الخاصّة.
وهذا التنظيم الربّاني الشامل امتدّ بحكم الاستقراء العلمي إلى كلّ جوانب الكون وظواهره.
وقد تكون أهمّ ظاهرة في الكون هي ظاهرة الاختيار لدى الإنسان، فإنّ الإنسان كائن مختار، ويعني ذلك أنّه كائن هادف، أي يعمل من أجل هدف يتوخّى تحقيقه بذلك العمل، فهو يحفر الأرض من أجل أن يستخرج ماءً، ويَطهى الطعام من أجل أن يأكل طعاماً لذيذاً، ويجرّب ظاهرةً طبيعيةً من أجل أن يتعرّف على قانونها، وهكذا، بينما الكائنات الطبيعية البحتة تعمل من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطّة، لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخّى تحقيقها. فالرئة والمعدة والأعصاب في ممارسة وظائفها الفيسيولوجية تعمل عملاً هادفاً، ولكنّ الهدف هنا لا تعيشه هي من خلال نشاطها الطبيعي والفيسيولوجي الخاصّ، وإنّما هو هدف الصانع الخبير، ولمّا كان الإنسان كائناً هادفاً ترتبط مواقفه العملية بأهداف يعيها ويتصرّف بموجبها، فهذا يفترض ضمناً أنّ الإنسان في مواقفه العملية هذه ليس مسيّراً وفق قانون طبيعيّ صارم، كما تسقط قطرة المطر في مسار محدّد وفقاً لقانون الجاذبية، لأنّه في حالة من هذا القبيل لا يمكن أن يكون هادفاً، أي يعمل من أجل هدف يعيش في داخل نفسه. فلكي يكون الإنسان هادفاً لا بدّ أن يكون حرّاً في التصرّف، ليتاح له أن يتصرّف وفقاً لما تنشأ في نفسه من أهداف، فالترابط بين المواقف العملية والأهداف هو القانون الذي ينظّم ظاهرة الاختيار لدى الإنسان. كما أنّ الهدف بدوره لا يتواجد بصورة عشوائية، فإنّ كلّ إنسان يحدّد أهدافه وفقاً لما تتطلّبه مصلحته وذاته من حاجات، وهذه الحاجات تحدّدها البيئة والظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان، غير أنّ هذه الظروف الموضوعية لا تحرّك الإنسان مباشرةً كما تحرك العاصفة أوراق الشجر، لأنّ هذا يعطّل دوره ككائن هادف، فلا بدّ للظروف الموضوعية إذن من تحريك الإنسان عن طريق الإثارة والإيحاء بتبنّي أهداف معيّنة، وهذه الإثارة ترتبط بإدراك الإنسان للمصلحة في موقف عمليّ معيّن، ولكن ليست كلّ مصلحة تحقّق إثارةً للفرد، وإنّما تحقّقها تلك المصالح التي يدرك الفرد أنّها مصالح له بالذات. وذلك أنّ المصالح على قسمين: فهناك مصالح على خطٍّ قصير تعود بالنفع غالباً على الفرد الهادف العامل نفسه، ومصالح على خطّ طويل تعود بالنفع على الجماعة، وكثيراً ما تتعارض مصالح الفرد ومصالح الجماعة، وهكذا نلاحظ من ناحية أنّ الإنسان غالباً لا يتحرك من أجل المصلحة لقيمها الإيجابية، بل بقدر ما تحقّق له من نفع خاصّ، ونلاحظ من ناحية أخرى أنّ خلق الظروف الموضوعية لضمان تحرك الإنسان وفق مصالح الجماعة شرط ضروري لاستقراء الحياة ونجاحها على الخطّ الطويل، وعلى هذا الأساس واجه الإنسان تناقضاً بين ما تفرضه سنّة الحياة واستقرارها من سلوك موضوعيّ واهتمام بمصالح الجماعة، وما تدعو إليه نوازع الفرد واهتمامه بشخصه من سلوك ذاتيّ واهتمام بالمنافع الآنيّة الشخصية.
وكان لا بدّ من صيغة تحلّ هذا التناقض وتخلق تلك الظروف الموضوعية التي تدعو إلى تحرّك الإنسان وفق مصالح الجماعة.
والنبوّة بوصفها ظاهرةً ربّانيةً في حياة الإنسان هي القانون الذي وضع صيغة الحلّ هذه، بتحويل مصالح الجماعة وكلّ المصالح الكبرى التي تتجاوز الخطّ القصير لحياة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطّه الطويل، وذلك عن طريق إشعاره بالامتداد بعد الموت، والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر الناس فيها لِيُرَوا أعمالهم: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شرّاً يَرَهُ﴾1، وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالحَ للفرد نفسه على هذا الخطّ الطويل.
وصيغة الحلّ هذه تتألّف من نظرية وممارسة تربوية معيّنة للإنسان على أساسها، والنظرية هي المعاد يوم القيامة، والممارسة التربوية على هذه النظرية عملية قيادية ربّانية، ولا يمكن إلاّ أن تكون ربانيةً، لأنّها عملية تعتمد على اليوم الآخر، أي على الغيب، فلا توجد إلاّ بوحي السماء، وهي النبوّة.
ومن هنا كانت النبوّة والمعاد واجهتين لصيغة واحدة، هي الحلّ الوحيد لذلك التناقض الشامل في حياة الإنسان، وتشكّل الشرط الأساسي لتنمية ظاهرة الاختيار وتطويرها في خدمة المصالح الحقيقية للإنسان.
*موجز في أصول الدين،السيد محمد باقر الصدر،دار الزهراء،بيروت ـ لبنان،ص71ـ74.
1-
زلزلة:7ـ8.
|