ماذا كانت النبوة؟
النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر، ولذا كانت النبوة سفارة بين الله وبين عباده. والحكمة الإلهية اقتضت إرسال الأنبياء لما في ذلك من مصلحة العباد وهذه المصلحة التي اقتضت النبوة وهي الهدف والغاية التي كانت لأجلها متعددة
الأولى: قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1.
تتحدث الآية الكريمة عن حاجة الناس إلى العدل وهو لا يتم إلا عبر وجود القانون الذي يحفظ حقوق الناس ويضع الحدود بينهم فلا يعتدي بعضهم على بعض، ذلك لأن الطبيعة الإنسانية تقتضي أن لا يعيش الإنسان وحده بل أن يندمج في حياة اجتماعية مدنية مع أمثاله من البشر، ومن الطبيعي أن تتعارض مصالح الأفراد فيما بينهم، الأمر الذي يؤدي إلى اختلافهم فيما بينهم وتنازعهم على شتى أمورهم، ولذا كان القانون من الضرورات التي يفرضها نشوء كل مجتمع يسعى للوصول إلى السعادة، ولكن هذا القانون لا بد وأن يتم وضعه بالنحو الذي يرفع فيه النزاع بين أفراد المجتمع عبر إيصال كل ذي حق إلى حقه، وهذا أمر لا يكفله أي قانون بل القانون الذي يكون موضوعاً من العارف بحقيقة هذا الإنسان، وحقيقة ما يحتاج إليه في حياته، وأن لا يكون في هذا القانون مصلحةٌ لهذا المقنّن، ومن هنا كان القانون الإلهي هو أفضل القوانين التي تحكم المجتمعات البشرية فالله عز وجل هو العالم بحقيقة هذا الإنسان. ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾2.
وهو الغني عن كل شيء وعن كل حاجة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾3.
والأنبياء هم رسل الله إلى الناس وهم واسطة الله عز وجل إلى الخلق لإبلاغهم بهذا القانون الإلهي.
الثانية: قال تعالى: ﴿مَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ كمَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾4.
تتحدث الآية الكريمة عن كون تعليم الناس هو من الغايات التي لأجلها كان إرسال الرسل وذلك لأن الإنسان لا يعلم من نفسه إلا بعض ما فيه مصالح نفسه ويخفى عليه الكثير، ولذا كان الإنسان دائما في حالة اكتشاف لما هو مجهول لديه ووظيفة الرسل تعليم هذا الإنسان ما فيه صلاح نفسه سواء في هذه الدار الدنيا أو في الدار الآخرة، لأن حاجات الإنسان لا تنحصر بهذه الدنيا المادية بل لا بد وأن يعمل على بناء آخرته في دنياه هذه. وبهذه التعاليم تتحقق هداية الإنسان إلى كماله المنشود.
الثالثة: قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِين﴾5 فالتزكية والتربية الصالحة هي من الغايات الأخرى التي كان لأجلها إرسال الأنبياء والرسل. والمراد من التزكية تطهير النفس من الرذائل، ومن ثمَّ تلقينها عادات الخير والإحسان.
عدد أنبياء الله عز وجل
لم يقص الله عز وجل في القرآن الكريم قصص أنبيائه جميعاً قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾6.
والأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم بأسمائهم هم ستة وعشرون نبياً وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، واليسع، وذو الكفل، والياس، ويونس، واسحق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وأيوب، وزكريا، ويحيى، وإسماعيل، وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم أجمعين.
وقد تعرض القرآن الكريم لبعض الأنبياء دون أن يذكر اسمهم قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾7، وقال تعالى: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾8.
وأما عدد الأنبياء فقد وردت الروايات بأن عددهم هو مئة وأربعة وعشرون ألفاً ففي رواية أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم النبيون؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي9.
وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله عز وجل مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وأنا أكرمهم على الله ولا فخر، وخلق الله عز وجل مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي، فعليٌّ أكرمهم على الله وأفضلهم10.
قال الشيخ الصدوق قدس سره: اعتقادنا في عددهم أنهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي، لكل نبي منهم وصي أوصى إليه بأمر الله تعالى11.
ضرورة الإيمان بالأنبياء جميعاً
لا بد للمسلم من الإيمان بنبوة جميع الأنبياء عليهم السلام وأنهم على الحق وكذلك الإيمان بطهارتهم وعصمتهم وقد ذمّ الله عز وجل من يؤمن ببعض الأنبياء دون بعض قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾12 تبين لنا الآية أن ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء إنما هي من جهة أن دعوة الأنبياء كانت واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد فكأنَّ المكذّب لأحدهم مكذِّبٌ للجميع13.
ومن جهة أخرى فإن إنكار نبوة الأنبياء هو إنكار لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه هو الذي أخبر عنهم وعن صدقهم فإنكار ذلك يرجع إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾14.
درجات الأنبياء عليهم السلام
تتحدث آيات القرآن الكريم عن اختلاف في درجات الأنبياء عليهم السلام ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾15.وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾16.
يتضح جلياً من هذه الآية أن الأنبياء وإن كانوا من حيث النبوة والرسالة متماثلين هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لاختلاف مهماتهم، وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضاً17.
بم يتفاضل الأنبياء عليهم السلام؟
في مقام الحديث عن تفاضل الأنبياء عليهم السلام فيما بينهم فمن الأمور التي يتفاضلون فيما بينهم على أساسه
1 - روح القدس
تبين لنا الروايات الشريفة أن روح القدس ملك عظيم جداً يؤيد الله تعالى به الأنبياء والرسل والمؤمنين، ولكن كل واحد منهم مؤيد بهذه القوة بحسب منزلته، وبحسب قربه من الله تعالى، ففي الرواية عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ قال: "خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مع الأئمة وهو من الملكوت"18.
فروح القدس إذا هو القوة الغيبية التي يمد بها الله تعالى أولياءه، وهذه القوة الغيبية موجودة بشكل أضعف في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم، وهذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات، من هنا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله لحسان: "لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنا" وقول بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام لشاعر قرأ أبياتاً ملتزمة: "إنما نفث روح القدس على لسانك"19.
2 - التفاضل في الخصائص
فبعض الأنبياء يختصه الله تعالى بخصائص لم يختص بها رسولاً آخر كاختصاص موسى صلى الله عليه وآله وسلم بالتكليم فسمي كليم الله، بينما كان كثير من الأنبياء يكلمه الله من خلال الوحي، أو المنام، وإلى هذا المعنى أشارت روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة..."20.
3 - التفاضل في كونهم أصحاب شرائع
فأولو العزم هم من الرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى كل البشر وليس إلى أمة محددة بعينها، أفضل من الأنبياء الذين أرسلوا إلى أمة خاصة، وهم أصحاب الشرائع الأساسية،وغيرهم من الأنبياء تابع لشرائعهم. ففي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب الشرائع والعزائم، وذلك أن كل نبي بعد نوح عليه السلام كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى عليه السلام، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى عليه السلام وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء الخمسة أولو العزم، فهم أفضل الأنبياء والرسل عليهم السلام"21.
4 - التفاضل في الإمامة
فالإمامة مقام من مقامات القرب من الله تعالى، فقد يكون بعض الإنبياء نبياً ولا يكون إماماً ويشهد على هذا المعنى ما ورد في قصة إبراهيم، والتي وردت في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾22.
وكان هذا الأمر بعد امتحان النبي إبراهيم عليه السلام بقضية ذبح ولده إسماعيل عليه السلام، فحينها كان نبياً ولم يكن إماماً.
وفي تتمة الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "... والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم، وقد كان إبراهيم عليه السلام نبيَّاً وليس بإمام حتى قال الله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً...﴾23.
* أولو العزم،سلسلة الدروس الثقافية, نشر جمعية المعارف الثقافية، ط 1، تموز 2006م - 1427هـ، ص 7 - 17
1- آل عمران: 84-85.
2- الحديد: 25.
3- الملك: 14.
4- الحج: 64.
5- البقرة: 151.
6- آل عمران: 164.
7- غافر: 78.
8- البقرة: 259.
9- يس: 14.
10- الخصال، الشيخ الصدوق، ص: 524.
11- الخصال، الشيخ الصدوق، ص: 641.
12- الاعتقادات في دين الإمامية، الشيخ الصدوق، ص: 92.
13- النساء، الآية: 150.
14- الميزان في تفسير القران، الطباطبائي، ج، ص: 295.
15- البقرة: 136.
16- البقرة: 253.
17- الإسراء: 55.
18- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج2، ص: 234.
19- تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 13، ص213، نقلا عن كتاب الكافي.
20- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج1، ص 292.
21- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 3016.
22- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4، ص 3018 - 3019.
23- البقرة: 124.
|