الصّيانة من الإثم والخطأ
لابدّ لكلّ نبيّ أنْ يكون موضع ثقة عموم الناس قبل كل شيء بحيث لا يجدون في كلامه أي احتمال للكذب والخطأ والتناقض. إذ إنَّ مركزه سوف يتزلزل في غير هذه الحالة.
إذا لم يكن الانبياء معصومين فإنَّ المتذرعين سوف يحتجون لعدم ايمانهم بامكانية خطأ الانبياء، كما أنَّ الباحثين عن الحقيقة يتزعزع إيمانهم بصحّة محتوى دعوتهم، فيرفض الطرفان رسالاتهم، أو أنّّهم في الأقل، لا يكون تقبلهم لها مصحوباً بحرارة الثقة والايمان.
هذا الدليل الذى يسمى "دليل الاعتماد" يعتبر من أهم أدلة عصمة الانبياء.
وبتعبير آخر: كيف يمكن أنْ يأمر الله الناس أنْ يطيعوا شخصاً غير ملتزم ومعرض للخطأ ولارتكاب المعاصي؟ لانهم إنْ أطاعوه فقد تابعوا الخطأ والإثم، وان لم يطيعوه فقد نسفوا مقامه كقائد، خاصة إنَّ مركز قيادة الانبياء يختلف تماماً عن القيادات الاُخرى، لأنَّ الناس يستقون منهم جميع عقائدهم وبرامج سلوكهم.
ولهذا نجد كبار المفسرين عندما يصلون الى هذه الآية: ﴿اطِيْعُوا اللهَ وَاطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُم﴾(النساء:59).
يقولون إنَّ الامر بالاطاعة المطلقة دليل على أنَّ النّبي معصوم واولي الامر معصومون أيضاً. وأولوا الامر هم الائمّة المعصومون عليهم السلام مثل عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلاّ لما أمر الله باطاعتهم طاعة مطلقة أبداً.
الطريق الآخر لإثبات معصومية الانبياء من كل إثم هو أنَّ "عوامل إرتكاب الاثم في نفوس الانبياء محكوم عليها بالهزيمة".
إنَّنا إذا راجعنا أنفسنا نجد أنَّنا نكاد نكون معصومين من ارتكاب بعض الاعمال السيئة أو القبيحة، لاحظ المثال التالي: هل تستطيع انْ تعثر على انسان عاقل يفكر في أكل جمرة، أو قاذورات؟
هل هناك انسان عاقل يخرج عارياً تماماً ليسير في الطرقات؟ طبعاً لا، واذا صدر هذا عن شخص لقلنا فوراً إنه خارج عن حالته الطبيعية وإنَّه مصاب ببعض الامراض النفسية، وإلاّ فانَّ من المستحيل أنْ يقدم انسان مالك لقواه العقلية الكاملة على ذلك.
عندما نحلل أمثال هذه الاعمال نلاحظ أنَّ قبح هذه الاعمال على درجة من الوضوح في أذهاننا بحيث لا يوجد عاقل يرتكبها.
هنا نستطيع بجملة مكثفة أنْ نجسد هذه الحقيقة، فنقول: إنَّ كل عاقل سليم "مصون" من ارتكاب بعض الاعمال القبيحة. و بعبارة اُخرى، إنَّه "معصوم" منها.
ثم نخطو خطوة اُخرى فنقول: هناك أشخاص معصومون من إرتكاب بعض الاعمال غير اللائقة التي لا يجد الناس العاديون حرجاً في ارتكابها.
مثلاً، هذا الطبيب العارف بأنواع الميكروبات لا يمكن أنْ يقبل الشرب من الماء الملوث الناتج عن غسل ملابس المرضى المصابين بمختلف الامراض الفتاكة، في الوقت الذي لا يجد شخص جاهل اُمّي مانعاً من شربه.
وبتحليل بسيط نستنتج أنَّه كلما كان وعي المرء بالنسبة لموضوع ما أعمق، كانت "عصمته" ازاء ما ينافي ذلك أكبر.
والآن، بالاستمرار في هذه المعادلة، نقول: إذا كان "ايمان" شخص و "وعيه" وثقته بالله وبمحكمته العادلة من العمق بحيث أنَّه يكاد يراها متجسدة أمام عينيه و شاخصة امامه، فانَّه يكون دون ريب مصوناً من ارتكاب أي ذنب، ويرى الاعمال القبيحة كما يرى العاقل الخروج الى الشارع عارياً قبيحاً.
إنَّ المال الحرام في نظر هذا الشخص أشبه بالجمر الملتهب فكما أنَّنا لا نضعه في فمنا، فهو كذلك لا يضع المال الحرام في فمه.
نستنتج من جماع هذا الكلام أنَّ الانبياء عليهم السلام بما وهبهم الله من علم ووعي وايمان خارق للعادة، يستطيعون أنْ يخمدوا صوت كل دافع للعصيان بحيث أنَّ أقوى المغريات لارتكاب الآثام لاتستطيع أنْ تغلب عقولهم وتضعف ايمانهم. وهذا هو معنى قولنا أنَّ الانبياء عليهم السلام معصومون من كل إثم.
العصمة مدعاة للفخر
بعض الذين لا يدركون جيداً معنى العصمة وعواملها يعترضون قائلين: إذا كان الله هو الذي يحول بين الشخص وارتكاب الاثم ويزيل من كيانه عوامل ارتكاب الذنوب، فلايكون هذا مدعاة لفخر هذا الشخص، إذ إنَّ عصمته من الإثم إجبارية، والفضيلة الاجبارية لا تكون مفخرة لأحد.
إنَّ جواب هذا الاعتراض بالاجمال أنَّ عصمة الأنبياء من الاثم ليست اجبارية مطلقاً، بل هي وليدة ايمان الانبياء القوي الكامل وعلمهم الذي لا يدانيه علم، وهذا مدعاة لأعظم الفخر!
إذا قام الطّبيب بوقاية نفسه من الامراض السارية، فهل يدل هذا على أنه مجبر على ذلك؟ وإذا قام شخص بالتزام قواعد الصحة بدقة تامة، أفلا يدعو هذا الى اعتزازه وفخره؟
وإذا تجنب حقوقي إرتكاب جريمة ما لكونه يعرف العقوبات القاسية التي تحكم بها المحاكم، فهل يفقد بذلك فضله؟
وبناء على ذلك، فإنَّ معصومية الانبياء اختيارية، وهي مفخرة عظيمة من مفاخرهم.
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي . مؤسسة البعثة،ط2 ، ص82-86