يعتمد هذا الدليل بنحو رئيسي على مشاهدة النعم الّتي أودعها الخالق في وجود الإنسان وما يحيط به ليُسهِّل عليه معيشتَه وتكاملَه في الحياة. وليست كلّ هذه النعم دخيلة في ضروريات حياته، بحيث ينعدم وجوده بدونها، بل إن كثيراً منها ممّا يدخل في الكماليات، وتسهيل مجاري الحياة. وكثير من هذه الكماليات أُمور جزئية بسيطة لا يلتفت إليها الإنسان إلا بالتأمل والتدبّر. ولأجل زيادة التوضيح نمثِّل ببعض الأَجهزة في بدن الإنسان.
إن الصانع الحكيم جهّز العين بأجهزة مختلفة، منها ما هو دخيل في أصل تحقق الرؤية، ومنها ما هو دخيل في سهولتها وتيسرها.
1- فجعل العين في أعلى أجزاء بدن الإنسان حتى يتسلط بنحو كامل على ما أمامه .
2- وجعل العين بمختلف طبقاتها في إطار جسم شحمي صلب أبيض اللون، حفظاً لها ممّا قد يصيبها.
3- وجعل العين بإطارها وجميع طبقاتها في حفرة عظمية، زيادة في صيانتها من الصدمات الطارئة.
4- وجعل فوق العين حاجباً يمنع من نزول العرق إليها، وأوجد في ناصية الإنسان خطوطاً ليسهل إنحراف العرق يميناً ويساراً.
5- وجعل لكل عين جفنين حافظين لها، وخلق فيهما أشفاراً وأهداباً، صيانة لها عن الدخان والأغبرة. وهما، مع أنهما يمنعان بضمهما دخولَ ما يؤذي العين، لكنهما لا يمنعان من الرؤية. فهما في هذا المجال أشبه بالستائر الحيديديّة تسمح للنور بالدخول من دون دخول أشعة الشمس.
6- وجعل في باطن كل جفن غدداً يترشح منها سائل لزج يصون أنسجة العين من الإحتكاك بما يحيطها، ويسهل دوران كرة العين في جميع الجهات.
7- وأحاط عدسية العين بمجموعة من الأنسجة العضلية، تجعلها تنقبض أمام الأَنوار القوية وتنبسط أمام الضعيفة منها، صيانة للعين عن دخول أزيد ممّا تتحمله أو أقل ممّا تحتاج إليه من النور.
هذا بعض يسير ممّا يرجع إلى العين، وفي الأجهزة الأُخرى بدائع وفوائد لا تحصى نذكر نذراً منها:
إنّ يد الخلقة جعلت تحت قدم الإنسان، أخمصاً حتى يَسْهُل عليه الوقوف والسير.
وجعلت في اليد أصابع، ثم فاوتت بينهما في الطول، ليسهل على الإنسان القيام بأعماله، وليكون بذلك صانعاً فناناً مبدعاً.
وجعلت في بواطن الأنامل خطوطاً وتعاريج ليسهل عليه الإمساك بالأجسام.
وهكذا إذا درسنا خلقة الإنسان وجدنا أنها مشتملة على أجهزة مختلفة بين دخيلة في أصل الحياة ودخيلة في كمالها وسهولتها. وكل ذلك يدفعنا إلى التساؤل: هل يمكن لخالق الإنسان أن يسهَل له كل طرق التكامل الظاهرية، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي والمعنوي؟.
وهل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان، ولو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل؟
أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المُؤَثِّرة في كمالاته المادية، ويترك ما هو مؤثر في تكامل روحه وفكره؟.
ولقد أُلهمنا هذا البرهان ممّا ذكره الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء حيث قال: "الحاجة إلى هذا (بعث النبي) في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصَّل وجوده، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقصير الأخمص من القدمين، وأشياء أُخرى من المنافع الّتي لا ضرورة إليها في البقاء... فلا يجوز أن تكون العناية الأُولى تقضي تلك المنافع، ولا تقضي هذه الّتي هي أُسُّها"1.
وإلى هذا يشير صدر المتألهين بقوله: "إن ذاته سبحانه منبع الخيرات ومنشأ الكمالات، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير والكمال، والزينة والجمال، سواء أكان ضرورياً له، كوجود العقل للإنسان والنبي للأُمة. وغير ضروري، كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين، وتقصير الأخمص من القدمين"2.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص47-49
1- الهيات الشفاء، بحث النبوة، ص 557 طبعة طهران. وأورده بعينه في كتاب النجاة، ص 304، طبعة 1357 هـ.
2- المبدأ والمعاد، لصدر المتألهين، ص 103، طبعة طهران.