كل انسان عاقل إذا جال ببصره فيما يحيطه من أرض وسماء يقف على أن الكون لم يخلق عبثاً، بل له غاية وهدف تتفاعل كل أجزائه في سبيله.
وليس معنى كونه ذا غاية أن الفاعل قام بإيجاده لسد حاجته كما هو المتعارف في أفعال غيره سبحانه، بل المراد أن الفعل ليس فعلاً عبثياً فاقداً للغاية، الّتي ترجع إلى غيره، فكون الفاعل ذا غرض يفارق كون الفعل ذا غاية، والمنفي عن ساحته سبحانه هو الأول دون الثاني.
إن النظام السائد على العالم، والإنسجام الموجود بين أجزائه يعرب عن أن الهدف من إيجاده هو استقرار الحياة في كوكبنا هذا. وهذه الغاية إن لم تكن هي الوحيدة فهي على الأقل، إحدى الغايات فكأن سير النجوم والكواكب والشمس والقمر، ونزول الأمطار والثلوج، وحركة الرياح والسحب، وجزر البحار ومدّها واخضرار المزارع وتفتح الازهار وو.. ممّا لا يعدّ ولا يحصى من الآثار الطبيعية، كلها لاجل تكوّن الحياة واستقرارها وتهيئة الأرضية الصالحه لتكامل الموجودات الحية.
وتتضح حاجة الإنسان إلى المعرفة بالوقوف على أُمور:
الأمر الأول: الهداية التكوينية
إن الموجودات الحية تصل إلى الغايات الّتي خلقت لها، في ظلّ الهداية التكوينية والغرائز المودعة في ذواتها، ولا تحتاج في بلوغها ذلك الكمال إلى عامل خارج عن ذواتها، سوى الإنسان.
إن الإنسان، وإن كان مجهزاً بغرائز ذاتية، إلا أنها غير وافية في إبلاغه الغاية الّتي خلق لها، ولا تعالج إلا القليل من حاجاته الضرورية. ولاجل ذلك ضمّ خالق الإنسان إلى تلك الغرائز، مصباحاً يضي له السبيل في مسيرة الحياة، وفي بحاجاته الّتي تقصر الغرائز عن إيفائها، وهو العقل.
ومع ذلك كله فإن العقل والغرائز غير كافيين أيضا في إبلاغ الإنسان إلى السعادة المتوخاة، بل يحتاج معهما إلى عامل ثالث يعينه في بلوغ تلك الغاية.
ووجه ذلك أن العقل الإنساني غير مصون عن الخطأ والزلل والإشتباه، وذلك لأن عمل العقل إختياري، فإنه يرى أمامه طرقاً متعددة وخطوطاً متفاوته، عليه أن يسلك إحداها ويتجنب بقيّتها، وكثيراً ما يركب الخاطئ منها ويحيد عن الصائب.
الأمر الثاني: قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية
إذا كان العقل والغرائز غير وافيين بحّل عامة مشاكل الإنسان، فالعلم الإنساني أيضاً غير كاف فيه، وذلك أن الإنسان رغم التقدم الّذي أحرزه في العلوم الطبيعية، لا يزال في بدايات سلّم هذا العلم، وما أحرزه ضئيل جداً أمام أسرار الكون العظيم. ورغم أن الإنسان تمكّن من معرفة قسم من المعادلات والقوانين الّتي تسير عليها الظواهر الطبيعية والقوى الكونية، إلاّ أنّه لا يعلم أي شيء هي، وما حقيقتها وماهيتها 1.
وممّا يوضح قصور العلم البشري في العلوم الالهية، أن هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية، إلى حد أوقعوا العالم في إسارة استهلاك مصنوعاتهم، ومع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية. فجلّهم إن لم يكن كلّهم عبّاد الأصنام والأوثان، وأسراء الأحجار والاخشاب.
وقد بلغ الحد في بلاد اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّاً، حتى أن هناك رباً باسم "رب الزواج"، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين.
وببابك بلاد الهند الشاسعة، وما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسة وتأله في "البقر". وليست بعيدة عنّا أيام أصاب الجوع تلك البلاد، وأصدر المجلس العام إجازة بذبح قسم من الأبقار لسدّ الجوع ورفع الموت عن أبناء الشعب، فقد ثارت ثائرة الجماهير إلى الحدّ الّذي أجبر الحكومة على إلغاء القانون. فرضوا أنه يموت الإنسان بجوعه، ويعيش البقر بأطيب عيشه، يأكل محاصيلهم ويتلف ممتلكاتهم.
فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء والذرة، وبعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر، فما هو حالها في غابر القرون والأزمان؟!. بل بأي صورة ياترى كان وضعنا الان لولا الهداية الإلهية عن طريق الرسل؟!.
نعم، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق وتعرفوا عليه عن طريق التفكير والتعقل، كسقراط وأفلاطون وأرسطو. ولكنهم أُناس استثنائيون، لا يعدون معياراً في البحث، ولا ميزاناً في نفي لزوم البعثة،. وكونهم عارفين بالتوحيد، لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه. على أنه من المحتمل جداً أن يكون وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل اليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه.
الأمر الثالث: ضالة العلم الإنساني في التعرف على المصالح والمفاسد
ربما يتصور أن الهدف الوحيد من بعثة الأنبياء، هو هداية الناس إلى المبدأوالمعاد، وما في المبدأ من صفات جمال وجلال، ولكن هذه الفكرة نصرانية بحتة، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك، فإنهم قد بعثوا مضافاً إلى ما مرّ لهداية الناس إلى وسائل السعادة والشقاء، فلأجل ذلك حثّوا على الأخلاق والمثل العليا في الحياة، كما بينّوا مصالح العباد ومفاسدهم الفردية والإجتماعية، ولذا كانت برامجهم تتسع وتتكامل بتكامل المجتمعات البشرية، حتى ختم التشريع بخاتم الأنبياء، وتبيّنت معالم الهداية في كافة الجوانب.
والّذي يحتم ضرورة هذا الهدف قصور العلم الإنساني عن تشخيص منافع البشر والمجتمعات ومضارّها، ويدل على ذلك:
أولاً: إن المجتمع الإنساني مع ما بلغه من الغرور العلمي لم يقف بعد على ألفباء الأقتصاد. فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين: واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية والإقتصاد الحر المطلق، وانه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات وتفجّر الطاقات. والأخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدءً والشيوعي غايةً، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة.
فلو كان الإنسان قادراً بحق على تشخيص المصالح والمفاسد، وما ينفعه وما يضره، لما حصل هذا الإختلاف، الّذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم.
ثانياً: وكما أن الإنسان لم يصل إلى النظام الاقتصادي النافع له، فهو كذلك لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها.
ونضرب مثالا بأحدها: الشيوعية. إنها تدعي لنفسها منهجاً أخلاقياً من أُصوله أن الإنسان لا يكون شيوعياً إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم، وكل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة، وإن كان ذلك إعداماً، وتدميراً وسرقة واختلاساً. ولأجل تبرير هذه الآراء الشاذة اعتنقوا الأصل المعروف: "الغايات تبرر الوسائل".
يقول لينين "أحد زعماء الشيوعية بعد ماركس وانجلز": "إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات ويلجأ إلى انواع الحيل والأفعال غير المشروعة، ليجد لنفسه موضعاً، وموطيء قدم في الإِتحاديات التجارية"2.
فإذا كان هذا حال الإنسان في معرفة المسائل الابتدائية في الاقتصاد والأخلاق، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أُسس تلك العلوم. أفبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الانسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة.
ثالثاً: إنّ التعرف على عوامل السعادة والشقاء له صلة وطيدة بسلوك الإنسان في الحياة، ومع الأسف إنّ الانسان ـ مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة ـ لم يدرك بعد تلك العوامل، بشهادة أنه يشرب المسكرات، ويستعمل المخدرات، ويتناول اللحوم الضارة. كما يقيم إقتصاده على الربا، الّذي لا يشك إنسان عطوف على المجتمع بأنه عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع.
هذه الوجوه وأمثالها ترشدنا إلى أن الإنسان ليس "ولم يكن" غنياً عن تعاليم الأنبياء، وتدعم بوضوح لزوم بعثتهم لنشر المعرفة بين الأمم الإنسانية.
قال القاضي عبد الجبار: "إنه قد تقرر في عقل كل عاقل، وجوب دفع الضرر عن النفس، وثبت أيضأ أن ما يدعو إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة. إذا صحّ هذا، وكنا نجوّز أن يكون في الافعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات3 وأجتناب المقبحات، وفيها ما إذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف، وبين ما لا يكون كذلك، فلا بد من أن يعرّفنا الله حال هذه الأفعال كي لا يكون عائداً بالنقص على غرضه بالتكليف. وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلاّ بأن يبعث إلينا رسولاً مؤيداً بالمعجز الدالّ على صدقه، فلا بُدّ من أن يفعل ذلك، ولا يجوز له الإخلال به"4.
قد جاء في الكتاب العزيز والسنة الشريفة إشارة إلى هذا الدليل نذكر منها:
قوله سبحانه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ...﴾(البقرة:213).
فإن الاختلاف "إن كان عن نوايا صادقة" آية عجز البشر عن الوصول إلى الحقيقة.
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل..."5.
وقول أمير المؤمنين عليه السَّلام: "فبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج عباده من عبادة الأوثان الى عبادته, ومن طاعة الشيطان الى طاعنه"6.
وقوله عليه السَّلام: "... إلى ان بعث الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لانجاز عدته، وتمام نبوته... وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتتة، بين مشبه لله بخَلْقه، أو ملحد في أسمائه، أو مشير به إلى غيره، فهداهم به من الضلالة..."7.
وفي هذا الحديث إشارة إلى قصور الإنسان في التعرف على المبدأ والمعاد.
وقول الإمام الكاظم عليه السَّلام لتلميذه هشام: "يا هشام، ما بعث الله أنبيائه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة. وأعلمهم بأمر الله، أحسنهم عقلاً. وأكملهم عقلاً، أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة"8.
وقول الامام الرضا عليه السَّلام : "لم يكن بدّ من رسول الله بينه وبينهم، يؤدي اليهم امره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به مِنْ إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه"9.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص31-37
1- وقف مرة اينشتاين العالم الكبير، عند درج صغير أسفل مكتبته، وقال: "إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي". ولو أنصف لقال: أقلّ من هذه النسبة، لما ذكرناه من جهل الإنسان حقائق القوى الّتي يكتشف معادلاتها. لاحظ مجلة رسالة الإسلام، الصادرة عن دار التقريب بالقاهرة، العدد الأول، السنة الرابعة، ص 24، تحت مقالة بعنوان ما نعلم وما لا نعلم للدكتور أحمد أمين.
2- موسوعة نيقولاي لينين، ج 17، ص142، طبعة 1923.
3- المراد من الواجبات ليس الفرائض الشرعية بل ما يقابل المقبحات، وهي الامور الّتي يحكم العقل بحسنها ولزوم الإتيان بها.
4- شرح الاصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 564.
5- الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل، الحديث11.
6- نهج البلاغة، الخطبة 147.
7- نهج البلاغة الخطبة الاولى.
8- الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل، الحديث 12.
9- بحار الانوار، ج11، ص40.